النَّفْسِ، قَالَ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:
١٤] . وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَتَوَكَّلُوا كَانُوا مُؤْمِنِينَ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، وَلَا أَنَّهُمْ إِنْ تَوَكَّلُوا كَانُوا مُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ التَّدَيُّنُ بِالدِّينِ. وَمِنْ ثَمَّ كَانَ قَوْلُهُ:
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا جَوَابًا لِلشَّرْطَيْنِ كِلَيْهِمَا. أَيْ يُقَدَّرُ لِلشَّرْطِ الثَّانِي جَوَابٌ مُمَاثِلٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ. هَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْآيَةِ وَمَا حَاوَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ خُرُوجٌ عَنْ مَهْيَعِ الْكَلَامِ.
وَقَدْ كَانَ صَادِقُ إِيمَانِهِمْ مَعَ نُورِ الْأَمْرِ النَّبَوِيِّ الَّذِي واجههم بِهِ نبيئهم مُسْرِعًا بِهِمْ إِلَى التَّجَرُّدِ عَنِ التَّخَوُّفِ وَالْمُصَانَعَةِ، وَإِلَى عَقْدِ الْعَزْمِ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، فَلِذَلِكَ بَادَرُوا بِجَوَابِهِ بِكَلِمَةٍ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا مُشْتَمِلَةً عَلَى خُصُوصِيَّةِ الْقَصْرِ الْمُقْتَضِي تَجَرُّدَهُمْ عَنِ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأُشِيرَ إِلَى مُبَادَرَتِهِمْ بِأَنْ عُطِفَتْ جُمْلَةُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ عَلَى مَقَالَةِ مُوسَى بِفَاءِ التَّعْقِيبِ خِلَافًا لِلْأُسْلُوبِ الْغَالِبِ فِي حِكَايَةِ جُمَلِ الْأَقْوَالِ الْجَارِيَةِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ
مَعْطُوفَةٍ، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ.
ثُمَّ ذَيَّلُوا كَلِمَتَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ بِسُؤَالِهِمْ مِنْهُ أَنْ يَقِيَهُمْ ضُرَّ فِرْعَوْنَ، نَاظِرِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ قَبْلَ مَصْلَحَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِنْ تَمَكَّنَ الْكَفَرَةُ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ قَوِيَتْ شَوْكَةُ أَنْصَارِ الْكُفَّارِ فَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِّ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ فَيَفْتَتِنُ بِذَلِكَ عَامَّةُ الْكَفَرَةِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ دِينَهُمُ الْحَقُّ.
وَالْفِتْنَةُ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا آنِفًا. وَسَمَّوْا ذَلِكَ فِتْنَةً لِأَنَّهَا تَزِيدُ النَّاسَ تَوَغُّلًا فِي الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ فِتْنَةٌ. وَالْفِتْنَةُ مَصْدَرٌ. فَمَعْنَى سُؤَالِهِمْ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ فِتْنَةً هُوَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ سَبَبَ فِتْنَةٍ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ تَجْعَلْنا إِلَى ضَمِيرِهِمُ الْمُخْبَرِ عَنهُ بفتنة تَعْدِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute