للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَ (إِذْ) مِنْ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ الْمُبْهَمَةِ تَدُلُّ عَلَى زَمَانِ نِسْبَةٍ مَاضِيَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ نِسْبَةٌ أُخْرَى مَاضِيَةٌ قَارَنَتْهَا، فَ (إِذْ) تَحْتَاجُ إِلَى جُمْلَتَيْنِ جُمْلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَظْرُوفِ وَتِلْكَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَعَ جَمِيعِ الظُّرُوفِ، وَجُمْلَةٍ تُبَيِّنُ الظَّرْفَ مَا هُوَ، لِأَنَّ (إِذْ) لَمَّا كَانَتْ مُبْهَمَةً احْتَاجَتْ لِمَا يُبَيِّنُ زَمَانَهَا عَنْ بَقِيَّةِ الْأَزْمِنَةِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى الْجُمَلِ أَبَدًا، وَالْأَكْثَرُ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ إِذْ فِي مَحَلِّ ظَرْفٍ لِزَمَنِ الْفِعْلِ فَتَكُونُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ، وَقَدْ تَخْرُجُ (إِذْ) عَنِ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ إِلَى الْمَفْعُولِيَّةِ كَأَسْمَاءِ الزَّمَانِ الْمُتَصَرِّفَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ مُخْتَارُ ابْنِ هِشَامٍ خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ الْجُمْهُورِ، فَهِيَ تَصِيرُ ظَرْفًا مُبْهَمًا مُتَصَرِّفًا، وَقَدْ يُضَافُ إِلَيْهَا اسْمُ زَمَانٍ نَحْوَ يَوْمَئِذٍ وَسَاعَتَئِذٍ فَتُجَرُّ بِإِضَافَةٍ صُورِيَّةٍ لِيَكُونَ ذِكْرُهَا وَسِيلَةً إِلَى حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ هِيَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ (إِذْ) مُلَازِمَةٌ لِلْإِضَافَةِ فَإِذَا حُذِفَتْ جُمْلَتُهَا عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ هُنَالِكَ حَذْفًا، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْذِفُوا جُمْلَةً مَعَ اسْمِ زَمَانٍ غَيْرِ (إِذْ) خَافُوا أَنْ لَا يَهْتَدِيَ السَّامِعُ لِشَيْءٍ مَحْذُوفٍ حَتَّى يَتَطَلَّبَ دَلِيلَهُ فَجَعَلُوا إِذْ قَرِينَةً عَلَى إِضَافَةٍ وَحَذَفُوا الْجُمْلَةَ لِيُنَبِّهُوا السَّامِعَ فَيَتَطَلَّبُ دَلِيلَ الْمَحْذُوفِ.

وَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا وَكَذَلِكَ أَعْرَبَهَا الْجُمْهُورُ وَجَعَلُوهَا مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: قالُوا وَهُوَ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبْرَةِ هُوَ خِطَابُ اللَّهِ لَهُمْ وَهُوَ مَبْدَأُ الْعِبْرَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَشْرِيفِ آدَمَ وَتَعْلِيمِهِ بَعْدَ الِامْتِنَانِ بِإِيجَادِ أَصْلِ نَوْعِ النَّاسِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْعِبْرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ [الْبَقَرَة: ٢٨] الْآيَاتِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي نَظِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ الْآتِي: وَإِذْ قُلْنا

لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا

[الْبَقَرَة: ٣٤] إِذْ وُجُودُ فَاءِ التَّعْقِيبِ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الظَّرْفِ مُتَعَلِّقًا بِمَدْخُولِهَا، وَلِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: قالُوا حِكَايَةٌ لِلْمُرَاجَعَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ عَلَى طَرِيقَةِ أَمْثَالِهِ كَمَا سَنُحَقِّقُهُ. فَالَّذِي يَنْسَاقُ إِلَيْهِ أُسْلُوبُ النَّظْمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةِ:

خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: ٢٩] أَيْ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقُ أَصْلِ الْإِنْسَانِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ خَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ وَكَونه لأجلنا يهيىء السَّامِعَ لِتَرَقُّبِ ذِكْرِ شَأْنِنَا بَعْدَ ذِكْرِ شَأْنِ مَا خُلِقَ لِأَجْلِنَا مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ، وَتَكُونُ (إِذْ) عَلَى هَذَا مَزِيدَةً لِلتَّأْكِيدِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:

فَإِذْ وَذَلِكَ لَا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ ... وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحًا بِفَسَادِ