وَالرِّزْقُ: مِنَ الطَّيِّبَاتِ.
فَمَعْنَى فَمَا اخْتَلَفُوا أُولَئِكَ وَلَا مَنْ خَلَفَهُمْ مِنْ أبنائهم وأخلافهم.
والتبوّؤ تَقَدَّمَ آنِفًا، وَالْمُبَوَّأُ: مَكَانُ الْبَوْءِ، أَيِ الرُّجُوعِ، وَالْمُرَادُ الْمَسْكَنُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى (صِدْقٍ) مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَوَّأُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا. وَالصِّدْقُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَالِصِ فِي نَوْعِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يُونُس: ٢] . وَالْمُرَادُ بِمُبَوَّأِ الصِّدْقِ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِين وَمَا فِيهَا مِنْ خِصْبٍ وَثَرَاءٍ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَاف: ١٣٧] .
وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَمَا اخْتَلَفُوا عَلَى بَوَّأْنا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ ثَنَاءٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ
شَكَرُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ وَلَمْ يُكْفُرُوهَا كَمَا كَفَرَهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ بَوَّأَهُمُ اللَّهُ حَرَمًا آمِنًا تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ، فَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ، ثُمَّ كَفَرُوا بِالرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. فَوَقَعَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ. وَتَقْدِيرُ مَعْنَاهُ: فَشَكَرُوا النِّعْمَةَ وَاتَّبَعُوا وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَمَا خَالَفُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ.
وَالِاخْتِلَافُ افْتِعَالٌ أُرِيدَ بِهِ شِدَّةُ التَّخَالُفِ وَلَا يُعْرَفُ لِمَادَّةِ هَذَا الْمَعْنَى فِعْلٌ مُجَرَّدٌ.
وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الْخَلْفُ لِمَعْنَى الْوَرَاءِ فَتَعِينَ أَنَّ زِيَادَةَ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ (اكْتَسَبَ) مُبَالَغَةً فِي (كَسَبَ) ، فَيُحْمَلُ عَلَى خِلَافِ تَشْدِيدٍ وَهُوَ مُضَادَّةُ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ وَمَا دَعَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ فَإِنَّ الْكَلَامَ ثَنَاءٌ مُرْدَفٌ بِغَايَةٍ تُؤْذِنُ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ نِهَايَةٌ لِلثَّنَاءِ وَإِثْبَاتٌ لِلَّوْمِ إِذْ قَدْ نَفَى عَنْهُمُ الِاخْتِلَافَ إِلَى غَايَةٍ تُؤْذِنُ بِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ مِنْهُمْ عِنْدَ تِلْكَ الْغَايَةِ فَالَّذِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا هُمُ الَّذِينَ بَوَّأَهُمُ اللَّهُ مُبَوَّأَ صِدْقٍ. وَقَدْ جَاءُوا بِعْدَهُمْ إِلَى أَنْ جَاءَ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَهَؤُلَاءِ مَا صَدَقَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: جاءَهُمُ الْعِلْمُ [آل عمرَان: ١٩] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute