للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: ١٠٩] وَيَكُونُ سَوْقُ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ لِقَصْدِ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فَيَكُونُ اسْتِقْرَارُ حَاصِلِ الْمُحَاوَرَةِ فِي نُفُوسِهِمْ أَمْكَنَ مِمَّا لَوْ أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مُوَاجَهَةً. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي الْإِلْقَاءِ التَّعْرِيضِيِّ يَسْلُكُهَا الْحُكَمَاءُ وَأَصْحَابُ الْأَخْلَاقِ مَتَى كَانَ تَوْجِيهُ الْكَلَامِ إِلَى الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَظِنَّةَ نُفُورٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: ٦٥] أَوْ كَانَ فِي ذَلِك الْإِلْقَاء رفق بِالَّذِي يُقْصَدُ سَوْقُ الْكَلَامِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَصْمِ مِنَ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ ص.

وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يلاقي قَوْله: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَن الْمَسْئُول عَنْهُ مِمَّا لَا يَكْتُمُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فِي الْقَصَصِ الْمُوَافَقَةُ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ إِعْلَانِهَا وَالشَّهَادَةِ بِهَا. وَغَيْرُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا فِي الْآيَةِ، وَيَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ قَوْلِهِ:

مِنْ قَبْلِكَ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يُنَاكِدُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَعَسُّفٍ.

وَإِنَّمَا تكون جملَة: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ مَا تُفِيدُهُ مَادَّةُ السُّؤَالِ مِنْ كَوْنِهِمْ يُجِيبُونَ بِمَا يُزِيلُ الشَّكَّ، فَبِذَلِكَ يَلْتَئِمُ التَّلَازُمُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُور فَسْئَلِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَسُكُونِ السِّينِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ فَسَلْ بِفَتْحِ السِّينِ دُونَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَبِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَ السِّينِ مُخَفَّفُ سَأَلَ.

فَجُمْلَةُ: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لجواب سُؤال ناشىء عَنِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، كَأَنَّ السَّامِعَ يَقُولُ: فَإِذَا سَأَلْتَهُمْ مَاذَا يَكُونُ، فَقِيلَ: لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.