للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْمُ يُونُسَ هُمْ أَهْلُ قَرْيَةِ نَيْنَوَى (١) مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ. وَهُمْ خَلِيطٌ مِنَ الْآشُورِيِّينَ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي أُسَرِ مُلُوكِ بَابِلَ بَعْدَ بُخْتُنَصَّرَ. وَكَانَتْ بِعْثَةُ يُونُسَ إِلَيْهِمْ فِي أول الْقرى الثَّامِنِ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ يُونُسَ وَتَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

وَلَمَّا كَذَّبَهُ أَهْلُ نَيْنَوَى تَوَعَّدَهُمْ بِخَسْفِ مَدِينَتِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ غَاضِبًا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا خَرَجَ خَافُوا نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَتَابُوا وَآمَنُوا بِاللَّهِ فَقَبِلَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ وَلَمْ يُعَذِّبْهُمْ. وَالْمَذْكُورُ أَنَّهُمْ رَأَوْا غَيْمًا أَسْوَدَ بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ تَوَعَّدَهُمْ يُونُسُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِحُلُولِ الْعَذَابِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ مُقَدِّمَةُ الْعَذَابِ فَآمَنُوا وَخَضَعُوا لِلَّهِ تَعَالَى فَأَمْسَكَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ مَا حَلَّ بِيُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي خُرُوجِهِ ذَلِكَ مِنِ ابْتِلَاعِ الْحُوتِ إِيَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَالْكَشْفُ: إِزَالَةُ مَا هُوَ سَاتِرٌ لِشَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الرَّفْعِ. وَالْمُرَادُ: تَقْدِيرُ الرَّفْعِ وَإِبْطَالُ الْعَذَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْكَشْفِ تَنْزِيلًا لِمُقَارَبَةِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ.

وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ وَالذُّلُّ. وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْخِزْيِ يَجُوزُ كَوْنُهَا بَيَانِيَّةً لِأَنَّ الْعَذَابَ كُلَّهُ خِزْيٌ، إِذْ هُوَ حَالَةٌ مِنَ الْهَلَاكِ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ فَإِذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ لِقَوْمٍ فَقَدْ أَرَادَ إِذْلَالَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْإِضَافَة حَقِيقَة لِلتَّخْصِيصِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْخِزْيِ الْحَالَةُ الْمُتَصَوَّرَةُ مِنْ حُلُولِهِ. وَهِيَ شَنَاعَةُ الْحَالَةِ لِمَنْ يُشَاهِدُهُمْ مِثْلُ الْخَسْفِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ، وَأَشْنَعُ الْخِزْيِ مَا كَانَ بِأَيْدِي أُنَاسٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ الَّذِي حَلَّ بِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالَّذِي كَادَ أَنْ يَحِلَّ بِجَمِيعِ قُرَيْشٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَنَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا نَجَّى قَوْمَ يُونُسَ.


(١) بِفَتْح النونين بَينهمَا يَاء تحتية سَاكِنة وَبعد النُّون الثَّانِيَة وَاو مَفْتُوحَة بعْدهَا ألف، هِيَ إِحْدَى مدن بِلَاد أشور من الْعرَاق كائنة على الضفة الْيُسْرَى من الدجلة بناها الْملك أشور سنة ٢٢٢٩ قبل الميلاد وَكَانَت مصطافا لملوك أشور من عهد شلمناصر الأول.