للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صَالِحٍ وَسَيِّئٍ، وَمُجَرَّدُ مُشَاهَدَةِ الْمَلَائِكَةِ لِهَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَجِيبِ الْمُرَادِ جَعْلُهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ كَافٍ فِي إِحَاطَتِهِمْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ عَجَائِبِ الصِّفَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا سَيَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْخَارِجِ لِأَنَّ مَدَارِكَهُمْ غَايَةٌ فِي السُّمُوِّ لِسَلَامَتِهَا مِنْ كُدْرَاتِ الْمَادَّةِ، وَإِذَا كَانَ أَفْرَادُ الْبَشَرِ يَتَفَاوَتُونَ فِي الشُّعُورِ بِالْخَفِيَّاتِ، وَفِي تَوَجُّهِ نُورَانِيَّةِ النُّفُوسِ إِلَى الْمَعْلُومَاتِ، وَفِي التَّوَسُّمِ وَالتَّفَرُّسِ فِي الذَّوَاتِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ جِبِلِّيَّةً وَاكْتِسَابِيَّةً وَلَدُنِّيَّةً الَّتِي أَعْلَاهَا النُّبُوَّةُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالنُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ الْبَحْتَةِ؟

وَفِي هَذَا مَا يُغْنِيكَ عَمَّا تَكَلَّفَ لَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ وَجْهِ اطِّلَاعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صِفَاتِ الْإِنْسَانِ قَبْلَ بُدُوِّهَا مِنْهُ مِنْ تَوْقِيفٍ وَاطِّلَاعٍ عَلَى مَا فِي اللَّوْحِ أَيْ عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أُمَّةٍ تَقَدَّمَتْ وَانْقَرَضَتْ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى الْوُحُوشِ الْمُفْتَرِسَةِ إِذْ كَانَتْ قَدْ وُجِدَتْ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَبِهِ أَيْضًا تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا عَلَى مَا يَتَوَقَّعُ هَذَا الْخَلْقُ مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يُلَاحَظْ فِيهِ وَاحِدٌ دُونَ آخَرَ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ صُدُورِ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ بِمَا يَصْلُحُونَ لَهُ بِالْقُوَّةِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ هَذَا عَلَى بَنِي آدَمَ دُونَ آدَمَ حَيْثُ لَمْ يُفْسِدُ، لِأَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ غَفْلَةً عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْبَيَانِ.

وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ دُونَ الدَّوَامِ أَيْ مَنْ يَحْصُلُ مِنْهُ الْفَسَادُ تَارَةً وَسَفْكُ الدِّمَاءِ تَارَةً لِأَنَّ الْفَسَادَ وَالسَّفْكَ لَيْسَا بِمُسْتَمِرَّيْنِ مِنَ الْبَشَرِ.

وَقَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ هُوَ صَلَاحُهَا وَانْتِظَامُ أَمْرِهَا وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمَشُوبِ بِالتَّعَجُّبِ مَوْقِعٌ وَهُمْ عَلِمُوا مُرَادَ اللَّهِ ذَلِكَ مِنْ تَلَقِّيهِمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ أَوْ مِنْ مُقْتَضَى حَقِيقَةِ الْخِلَافَةِ أَوْ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالِ الِاعْتِنَاءِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا عَلَى نُظُمٍ تَقْتَضِي إِرَادَةَ بَقَائِهَا إِلَى أَمَدٍ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ الْعَالِمِ مَقْصِدٌ لِلشَّارِعِ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [مُحَمَّد: ٢٢، ٢٣] وَقَالَ:

وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥] .

وَلَا يَرِدُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غِيبَةٌ وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَيْسَ عَالَمَ تَكْلِيفٍ وَلِأَنَّهُ لَا غِيبَةَ فِي مَشُورَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْخِطْبَةِ وَالتَّجْرِيحِ لِتَوَقُّفِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا فِي الْمُسْتَشَارِ