جَزَمُوا بِتَكْذِيبِهِ فَقَدَّمُوا لِذَلِكَ مُقْدِمَاتٍ اسْتَخْلَصُوا مِنْهَا تَكْذِيبَهُ، وَتِلْكَ مُقْدِمَاتٌ بَاطِلَةٌ أَقَامُوهَا عَلَى مَا شَاعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُغَالَطَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي رَوَّجَهَا الْإِلْفُ وَالْعَادَةُ فَكَانُوا يُعِدِّونَ التَّفَاضُلَ بِالسُّؤْدُدِ وَهُوَ شَرَفٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهِ قِوَامُهُ الشَّجَاعَةُ وَالْكَرَمُ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ أَسْبَابَ السُّؤْدُدِ أَسْبَابًا مَادِّيَّةً جَسَدِيَّةً، فَيُسَوِّدُونَ أَصْحَابَ الْأَجْسَامِ الْبَهِجَةِ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لِأَنَّهُمْ بِبَسَاطَةِ مَدَارِكِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ حُسْنَ الذَّوَاتِ، وَيُسَوِّدُونَ أَهْلَ الْغِنَى لِأَنَّهُمْ يَطْمَعُونَ فِي نَوَالِهِمْ، وَيُسَوِّدُونَ الْأَبْطَالَ لِأَنَّهُمْ يُعِدُّونَهُمْ لِدِفَاعِ أَعْدَائِهِمْ. ثُمَّ هُمْ يَعْرِفُونَ أَصْحَابَ تِلْكَ الْخِلَالِ إِمَّا بِمُخَالَطَتِهِمْ وَإِمَّا بِمُخَالَطَةِ أَتْبَاعِهِمْ فَإِذَا تَسَامَعُوا بِسَيِّدِ قَوْمٍ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ تَعَرَّفُوا أَتْبَاعَهُ وَأَنْصَارَهُ، فَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَشْرَافِ وَالسَّادَةِ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا اتَّبَعُوهُ إِلَّا لَمَّا رَأَوْا فِيهِ مِنْ مُوجِبَاتِ السِّيَادَةِ وَهَذِهِ أَسْبَابٌ مُلَائِمَةٌ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ إِذْ لَا عِنَايَةَ لَهُمْ بِالْجَانِبِ النَّفْسَانِيِّ مِنَ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ.
فَلَمَّا دَعَاهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَعْوَةً عَلِمُوا مِنْهَا أَنَّهُ يَقُودُهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ فَفَكَّرُوا وَقَدَّرُوا فَرَأَوُا الْأَسْبَابَ الْمَأْلُوفَةَ بَيْنَهُمْ لِلسُّؤْدُدِ مَفْقُودَةً مَنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فَجَزَمُوا بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقِيقٍ بِالسِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ فَجَزَمُوا بِتَكْذِيبِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الرِّسَالَةِ بِسِيَادَةٍ
لِلْأُمَّةِ وَقِيَادَةٍ لَهَا.
وَهَؤُلَاء لقصود عُقُولِهِمْ وَضَعْفِ مَدَارِكِهِمْ لَمْ يَبْلُغُوا إِدْرَاكَ أَسْبَابِ الْكَمَالِ الْحَقِّ، فَذَهَبُوا يَتَطَلَّبُونَ الْكَمَالَ مِنْ أَعْرَاضٍ تعرض للنَّاس بِالصَّدَقَةِ مِنْ سَعَةِ مَالٍ، أَوْ قُوَّةِ أَتْبَاعٍ، أَوْ عِزَّةِ قَبِيلَةٍ. وَتِلْكَ أَشْيَاءُ لَا يَطَّرِدُ أَثَرُهَا فِي جَلْبِ النَّفْعِ الْعَامِّ وَلَا إِشْعَارٍ لَهَا بِكَمَالِ صَاحِبِهَا إِذْ يُشَارِكُهُ فِيهَا أَقَلُّ النَّاسِ عُقُولًا، وَالْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ مِثْلُ الْبَقَرَةِ بِمَا فِي ضَرْعِهَا مِنْ لَبَنٍ، وَالشَّاةُ بِمَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ صُوفٍ، بَلْ غَالِبُ حَالِهَا أَنَّهَا بِضِدِّ ذَلِكَ.
وَرُبَّمَا تَطَلَّبُوا الْكَمَالَ فِي أَجْنَاسٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ كَالْجِنِّ، أَوْ زِيَادَةِ خِلْقَةٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي عَمَلِ الْمُتَّصِفِ بِهَا مِثْلِ جَمَالِ الصُّورَةِ وَكَمَالِ الْقَامَةِ، وَتِلْكَ وَإِنْ كَانَتْ مُلَازِمَةً لِمَوْصُوفَاتِهَا لَكِنَّهَا لَا تُفِيدُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَصَادِرَ كَمَالَاتٍ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute