للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فَنَفْيٌ لِشُبْهَةِ قَوْلِهِمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا [هود: ٢٧] وَلِذَلِكَ أَعَادَ مَعَهُ فِعْلَ الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ إِبْطَالُ دَعْوَى أُخْرَى أَلْصَقُوهَا بِهِ، وَتَأْكِيدُهُ بِ (إِنَّ) لِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَقُولُهُ قَائِلُهُ إِلَّا مُؤَكَّدًا لِشِدَّةِ إِنْكَارِهِ لَوِ ادَّعَاهُ مُدَّعٍ، فَلَمَّا نَفَاهُ نَفَى صِيغَةَ إِثْبَاتِهِ.

وَلَمَّا أَرَادَ إِبْطَالَ قَوْلِهِمْ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: ٢٧] أَبْطَلَهُ بِطَرِيقَةِ التَّغْلِيطِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا ضَعْفَهُمْ وَفَقْرَهُمْ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ فَضْلِهِمْ، فَأَبْطَلَهُ بِأَنَّ ضَعْفَهُمْ لَيْسَ بِحَائِلٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ إِذْ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الضَّعْفِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ فَقْرٍ وَقِلَّةٍ وَبَيْنَ الْحِرْمَانِ مَنْ نَوَالِ الْكِمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَأَعَادَ مَعَهُ فِعْلَ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الْقَوْلِ مَعْنًى غَيْرَ الْمُرَادِ مِنْهُ فِيمَا قِيلَ، فَالْقَوْلُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يَقُولُ مَا يَعْتَقِدُ، وَهِيَ تَعْرِيضِيَّةٌ بالمخاطبين لأَنهم يضمون ذَلِكَ وَيُقَدِّرُونَهُ.

وَالِازْدِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الزَّرْيِ وَهُوَ الِاحْتِقَارُ وَإِلْصَاقُ الْعَيْبِ، فَأَصْلُهُ: ازْتِرَاءٌ، قُلِبَتْ تَاءُ الِافْتِعَالِ دَالًا بَعْدَ الزَّايِ كَمَا قُلِبَتْ فِي الِازْدِيَادِ.

وَإِسْنَادُ الِازْدِرَاءِ إِلَى الْأَعْيُنِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ النَّفْسِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْأَعْيُنَ سَبَبُ الِازْدِرَاءِ غَالِبًا، لِأَنَّ الِازْدِرَاءَ يَنْشَأُ عَنْ مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ الْحَقِيرَةِ عِنْدَ النَّاظِرِ. وَنَظِيرُهُ إِسْنَادُ الْفَرَقِ إِلَى الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:

كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتَوْا ... وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: ١١٦] وَإِنَّمَا سَحَرُوا عُقُولَهُمْ وَلَكِنَّ الْأَعْيُنَ تَرَى حَرَكَاتِ السَّحَرَةِ فَتُؤْثِرُ رُؤْيَتُهَا عَلَى عُقُولِ الْمُبْصِرِينَ.

وَجِيءَ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالَّةِ عَلَى تَأْكِيدِ نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْرِيضًا بِقَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ جعلُوا ضعف أَتْبَاعه نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَفَقْرِهِمْ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْخَيْر عَنْهُمْ فَاقْتَضَى دَوَامُ ذَلِكَ مَا دَامُوا ضُعَفَاءَ فُقَرَاءَ، فَلِسَانُ حَالِهِمْ يَقُولُ: لَنْ يَنَالُوا خَيْرًا، فَكَانَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.