للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْإِنْشَاءُ: الْإِيجَادُ وَالْإِحْدَاثُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فِي الْأَنْعَامِ [٦] .

وَجَعَلَ الْخَبَرَيْنِ عَنِ الضَّمِيرِ فِعْلَيْنِ دُونَ: هُوَ مُنْشِئُكُمْ وَمُسْتَعْمِرُكُمْ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَمْ يُنْشِئْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا هُوَ، وَلَمْ يَسْتَعْمِرْكُمْ فِيهَا غَيْرُهُ.

وَالْإِنْشَاءُ مِنَ الْأَرْضِ خَلْقُ آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّ إِنْشَاءَهُ إِنْشَاءٌ لِنَسْلِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ تَعَلُّقُ خَلْقِهِمْ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ غَرْسٍ وَزَرْعٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٤٦- ١٤٨] أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ جِبَالِ الْأَرْضِ بُيُوتًا وَيَبْنُونَ فِي الْأَرْضِ قُصُورًا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:

وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً [الْأَعْرَاف: ٧٤] ،

فَكَانَتْ لَهُمْ مَنَافِعُ مِنَ الْأَرْضِ تُنَاسِبُ نِعْمَةَ إِنْشَائِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ فَلِأَجْلِ مَنَافِعِهِمْ فِي الْأَرْضِ قُيِّدَتْ نِعْمَةُ الْخَلْقِ بِأَنَّهَا مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي أُنْشِئُوا مِنْهَا، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها.

وَالِاسْتِعْمَارُ: الْإِعْمَارُ، أَي جعلكُمْ عامرينها، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَالَّتِي فِي اسْتَبْقَى وَاسْتَفَاقَ. وَمَعْنَى الْإِعْمَارِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَرْضَ عَامِرَةً بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ تَعْمِيرًا لِلْأَرْضِ حَتَّى سُمِّيَ الْحَرْثُ عِمَارَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عَمْرُ الْأَرْضِ.

وَفَرَّعَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ النِّعَمِ أَمْرَهُمْ بِاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، أَيْ طَلَبِ مغْفرَة أجرامهم، والإقلاع عمّا لَا يَرْضَاهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ. وَمِنْ تَفَنُّنِ الْأُسْلُوبِ أَنْ جعلت هَذِه النعم علّة لِأَمْرِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِطَرِيقِ جُمْلَةِ التَّعْلِيلِ، وَجُعِلَتْ عِلَّةً أَيْضًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ بِطَرِيقِ التَّفْرِيعِ.

وَعُطِفَ الْأَمْرُ بِالتَّوْبَةِ بِحَرْفِ التَّرَاخِي لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: ٥١] فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.