بِهِ الْخِلَافُ مَدْخُولًا لِحَرْفِ إِلى الدَّالِ عَلَى الِانْتِهَاءِ إِلَى شَيْءٍ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ لِتَضْمِينِ أُخالِفَكُمْ مَعْنَى السَّعْيِ إِلَى شَيْءٍ. وَيَتَعَلَّقُ إِلى مَا أَنْهاكُمْ بِفِعْلِ أُخالِفَكُمْ، وَيَكُونُ أَنْ أُخالِفَكُمْ مَفْعُولَ أُرِيدُ.
فَقَوْلُهُ: أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ أَيْ أَنْ أَفْعَلَ خِلَافَ الْأَفْعَالِ الَّتِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهَا بِأَنْ أَصْرِفَكُمْ عَنْهَا وَأَنَا أَصِيرُ إِلَيْهَا. وَالْمَقْصُودُ: بَيَانُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أَمْرًا يَعُمُّ الْأُمَّةَ وَإِيَّاهُ وَذَلِكَ شَأْنُ الشَّرَائِعِ، كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ خِطَابَ الْأُمَّةِ يَشْمَلُ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَفِي هَذَا إِظْهَارُ أَنَّ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ يَنْهَى أَيْضًا نَفْسَهُ عَنْهُ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى مَا فِي النَّهْيِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى أَنَّ شَأْنَهُ لَيْسَ شَأْنَ الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ أَعْمَالٍ وَهُمْ يَأْتُونَهَا، لِأَنَّ مثل ذَلِك ينبىء بِعَدَمِ النُّصْحِ فِيمَا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ، إِذْ لَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ النُّصْحَ وَالْخَيْرَ فِي ذَلِكَ لَاخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْمِي التَّوْبِيخُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: ٤٤] أَيْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ كِتَابَ الشَّرِيعَةِ الْعَامَّةِ لَكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَتَعْلَمُوا أَنَّكُمْ أَوْلَى بِجَلْبِ الْخَيْرِ لِأَنْفُسِكُمْ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ الْمُعَاكَسَةُ وَالْمُنَازَعَةُ إِمَّا لِأَنَّهُ عَرَفَ مِنْ مَلَامِحِ تَكْذِيبِهِمْ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوهُ سَاعِيًا إِلَى التَّمَلُّكِ عَلَيْهِمْ وَالتَّجَبُّرِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْلَعَ مِنْ نُفُوسِهِمْ خَوَاطِرَ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ تَهْجِسَ فِيهَا.
وَهَذَا الْمَحْمَلُ فِي الْآيَةِ يَسْمَحُ بِهِ اسْتِعْمَالُ التَّرْكِيبِ وَمَقَاصِدُ الرُّسُلِ وَهُوَ أَشْمَلُ لِلْمَعَانِي مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَا يَنْبَغِي قَصْرُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَلَى مَا قَالُوهُ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُ قَوْلَ قَوْمِهِ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا [هود: ٨٧] ، فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا بِهِ أَنَّهُ مَا قَصَدَ إِلَّا مُخَالَفَتَهُمْ وَتَخْطِئَتَهُمْ وَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَكَانَ مُقْتَضَى إِبْطَالِ ظِنَّتِهِمْ أَنْ يَنْفِيَ أَنْ يُرِيدَ مُجَرَّدَ مُخَالَفَتِهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبِهِ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute