وَمَا فِي قَوْله: مِمَّا يَعْبُدُ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تَكُ فِي شَكٍّ مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ.
وَقَدْ تَتَبَّعْتُ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهُ عَنَاهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ هَذَا فِي نَحْوِ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا وَهُوَ مِمَّا أُلْهِمْتُ إِلَيْهِ وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤١] .
وَمَعْنَى الشَّكِّ فِي عِبَادَتِهِمْ لَيْسَ إِلَّا الشَّكُّ فِي شَأْنِهَا، لِأَنَّ عِبَادَتهم مَعْلُومَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ مِرْيَتِهِ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ الشَّكِّ فِيمَا قَدْ يَعْتَرِيهِ مِنَ الشَّكِّ مِنْ أَنَّهُمْ هَلْ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ يَتْرُكُهُمْ إِلَى عِقَابِ الْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ مُسْتَأْنَفَةٌ، تَعْلِيلًا لِانْتِفَاءِ الشَّكِّ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَوَجْهُ كَوْنِهِ عِلَّةً أَنَّهُ لَمَّا كَانَ دِينُهُمْ عَيْنَ دِينِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَقَدْ بَلَغَكُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ عِقَابًا عَلَى دِينِهِمْ فَأَنْتُمْ تُوقِنُونَ بِأَنَّ جَزَاءَهُمْ سَيَكُونُ مُمَاثِلًا لِجَزَاءِ أَسْلَافِهِمْ،
لِأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُتَمَاثِلَةِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا كَما يَعْبُدُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْمَصَادِرِ. وَكَافُ التَّشْبِيهِ نَائِبَةٌ عَنْ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. التَّقْدِيرُ: إِلَّا عِبَادَةَ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ.
وَالْآبَاءُ: أُطْلِقَ عَلَى الْأَسْلَافِ، وَهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ الْعَدْنَانِيِّيِنَ كَانَتْ أُمُّهُمْ جُرْهُمِيَّةً، وَهِيَ امْرَأَةُ إِسْمَاعِيلَ، وَجُرْهُمْ مِنْ إِخْوَةِ ثَمُودَ، وَثَمُودُ إِخْوَةٌ لَعَادٍ، وَلِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ أُمُّهُمْ خُزَاعِيَّةً وَهِيَ زَوْجُ قُصَيٍّ. وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فِي الْعَرَبِ أَتَاهُمْ بِهَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، وَهُوَ جَدُّ خُزَاعَةَ.
وَعَبَّرَ عَنْ عِبَادَةِ الْآبَاءِ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْعِبَادَةِ، أَيْ إِلَّا كَمَا اعْتَادَ آبَاؤُهُمْ عِبَادَتَهُمْ. وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْمُضِيِّ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute