للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وَالْآيَةُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَعَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِذِ الْمَعْنَى: وَلَا تَكُونُوا كَالْأُمَمِ مِنْ قَبِلِكُمْ إِذْ عَدِمُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ فَأَسْرَفُوا فِي غَلْوَائِهِمْ حَتَّى حَلَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَإِنْ تَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ كَانَ حَالُكُمْ كَحَالِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أُتِيَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّهُ فِي مَوْقِعِ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّينَهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا كَمَا كَانُوا فَيُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَكُونُوا مُسْتَقِيمِينَ وَلَا تَطْغَوْا وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الظَّالِمِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَغَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي فِي الْآيَةِ لِتَفَنُّنِ فَوَائِدِهِ وَدَقَائِقِهِ وَاسْتِقْلَالِ أَغْرَاضِهِ مَعَ كَونهَا آئلة إِلَى غَرَضٍ يُعَمِّمُهَا. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ أَسَالِيبِ الْإِعْجَازِ الَّذِي هُوَ كَرَدِّ الْعَجْزِ عَلَى الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا ظُهُورِ قَصْدٍ.

وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنى

قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»

. وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى (هَلَّا) . وَتَحْضِيضُ الْفَائِتِ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا تَحْذِيرُ غَيْرِهِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ وَالْعِبْرَةُ بِمَا أَصَابَهُمْ.

وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ.

وَالْبَقِيَّةُ: الْفَضْلُ وَالْخَيْرُ. وَأُطْلِقَ عَلَى الْفَضْلِ الْبَقِيَّةُ كِنَايَةً غَلَبَتْ فَسَارَتْ مَسْرَى الْأَمْثَالِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُفَرِّطُ فِيهِ.

وَبَقِيَّةُ النَّاسِ: سَادَتُهُمْ وَأَهْلُ الْفَضْلِ مِنْهُمْ، قَالَ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطَّائِيُّ:

إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ... فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتُ