للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لِمُشَاهَدٍ بِالتَّخَيُّلِ وَالِاسْتِحْضَارِ وَهُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النَّجْم: ٦٢] .

وَالسُّجُودُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالَةٍ فِيهِمْ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمٍ، وَقَدْ جَمَعَ مَعَانِيَهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [النَّحْل: ٤٩] . فَكَانَ السُّجُودُ أَوَّلَ تَحِيَّةٍ تَلَقَّاهَا الْبَشَرُ عِنْدَ خَلْقِ الْعَالِمِ.

وَقَدْ عُرِفَ السُّجُودُ مُنْذُ أَقْدَمِ عُصُورِ التَّارِيخِ فقد وجد عى الْآثَارِ الْكِلْدَانِيَّةِ مُنْذُ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ صُورَةُ حَمُورَابِي مَلِكِ كِلْدِيَةَ رَاكِعًا أَمَامَ الشَّمْسِ، وَوُجِدَتْ عَلَى الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ صُوَرُ أَسْرَى الْحَرْبِ سُجَّدًا لِفِرْعَوْنَ، وَهَيْآتُ السُّجُودِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ. وَهَيْئَةُ سُجُودِ الصَّلَاةِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَدْيَانِ. وَالسُّجُودُ فِي صَلَاةِ الْإِسْلَامِ الْخُرُورُ عَلَى الْأَرْضِ بِالْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

وَتَعْدِيَةُ اسْجُدُوا لِاسْمِ آدَمَ بِاللَّامِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلِّفُوا بِالسُّجُودِ لِذَاتِهِ وَهُوَ أَصْلُ دَلَالَةِ لَامِ التَّعْلِيلِ إِذَا عُلِّقَ بِمَادَّةِ السُّجُودِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النَّجْم:

٦٢] وَقَوْلِهِ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت: ٣٧] وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ السُّجُودَ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ لِأَنَّ هَذَا شَرْعٌ جَدِيدٌ نَسَخَ مَا كَانَ فِي الشَّرَائِعِ الْأُخْرَى وَلِأَنَّ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عَمَلِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ تَكَالِيفِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَلَا طَائِلَ تَحْتَ إِطَالَةِ الْبَحْثِ فِي أَنَّ آدَمَ مَسْجُودٌ لَهُ أَوْ هُوَ قِبْلَةٌ لِلسَّاجِدِينَ كَالْكَعْبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ بِجَعْلِ اللَّامِ بِمَعْنَى إِلَى مِثْلَهَا فِي قَوْلِ حَسَّانَ:

أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ فَإِنَّ لِلضَّرُورَةِ أَحْكَامًا. لَا يُنَاسب أَن يُقَال بِهَا أَحْسَنُ الْكَلَامِ نِظَامًا.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ بَدِيعٌ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ الْعِلْمِ وَجَدَارَةِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا عَلَّمَ آدَمَ عِلْمًا لَمْ يُؤَهِّلْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ كَانَ قَدْ جَعَلَ آدَمَ أُنْمُوذَجًا (١) لِلْمُبْدَعَاتِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ وَالْعُلُومِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي الْبَشَرِ مِنْ بَعْدُ وَالَّتِي سَتَظْهَرُ إِلَى فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ.


(١) بِضَم الْهمزَة هُوَ الشَّائِع وَفِي «الْقَامُوس» إِن صَوَابه نموذج بِدُونِ همز وبفتح النُّون، وَإِن الأنموذج لحن قلت وَقد سمى الزَّمَخْشَرِيّ مُخْتَصرا لَهُ فِي النَّحْو «الأنموذج» ، والزمخشري لَا يرتاب فِي سَعَة اطِّلَاعه. وَهِي كلمة معربة عَن الفارسية وَهِي بِالْفَارِسِيَّةِ «نمونة» .