للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَبَوَيْهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْخُلُقَ الرَّاجِعَ لِإِيثَارِ النَّفْسِ بِالْخَيْرِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْغَيْرِ هُوَ مَنْبَعُ الْعَدَاوَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُعَادِي الْآخَرَ إِلَّا لِاعْتِقَادِ مُزَاحِمَةٍ فِي مَنْفَعَةٍ أَوْ لِسُوءِ ظَنٍّ بِهِ فِي مَضَرَّةٍ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ أَصْلَ الْأَخْلَاقِ حَسَنِهَا وَقَبِيحِهَا هُوَ الْخَوَاطِرُ الْخَيِّرَةُ وَالشِّرِّيرَةُ ثُمَّ يَنْقَلِبُ الْخَاطِرُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِعْلٌ فَيَصِيرُ خُلُقًا وَإِذَا قَاوَمَهُ صَاحِبُهُ وَلَمْ يَفْعَلْ صَارَتْ تِلْكَ الْمُقَاوَمَةُ سَبَبًا فِي اضْمِحْلَالِ ذَلِكَ الْخَاطِرِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْهَمِّ بِالْمَعَاصِي وَكَانَ جَزَاءُ تَرْكِ فِعْلِ مَا يَهُمُّ بِهِ مِنْهَا حَسَنَةً وَأَمَرَتْ بِخَوَاطِرِ الْخَيْرِ فَكَانَ جَزَاءُ مُجَرَّدِ الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ حَسَنَةً وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْهَا وَكَانَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْهَمِّ عَشْرَ حَسَنَاتٍ كَمَا

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً- ثُمَّ قَالَ- وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ»

وَجَعَلَ الْعَفْوَ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ مِنَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَغْفِرَةً

فِي حَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي فِيمَا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا» .

إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ خَيِّرًا سَالِمًا مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَوَاطِرِ الشِّرِّيرَةِ عَلَى صِفَةٍ مَلَكِيَّةٍ وَهُوَ مَعْنَى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: ٤] ثُمَّ جَعَلَهُ أَطْوَارًا فَأَوَّلُهَا طَوْرُ تَعْلِيمِهِ النُّطْقَ وَوَضْعِ الْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأُ الْمَعْرِفَةِ وَبِهِ يَكُونُ التَّعْلِيمُ أَيْ يُعَلِّمُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بَعْضًا مَا عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ الْآخَرُ فَكَانَ إِلْهَامُهُ اللُّغَةَ مَبْدَأَ حَرَكَةِ الْفِكْرِ الْإِنْسَانِيِّ وَهُوَ مَبْدَأٌ صَالِحٌ لِلْخَيْرِ وَمُعِينٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِهِ عَلَّمَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَلِذَلِكَ تَرَى الصَّبِيَّ يَرَى الشَّيْءَ فَيُسْرِعُ إِلَى قُرَنَائِهِ يُنَادِيهِمْ لِيَرَوْهُ مَعَهُ حِرْصًا عَلَى إِفَادَتِهِمْ فَكَانَ الْإِنْسَانُ مُعَلِّمًا بِالطَّبْعِ وَكَانَ ذَلِكَ مُعِينًا عَلَى خَيْرِيَّتِهِ إِلَّا أَنَّهُ صَالِحٌ أَيْضًا لِاسْتِعْمَالِ النُّطْقِ فِي التَّمْوِيهِ وَالْكَذِبِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَمْرٍ كَلَّفَهُ بِمَا فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يَمْتَثِلَهُ وَأَنْ يُخَالِفَهُ فَتِلْكَ الِاسْتِطَاعَةُ مَبْدَأُ حَرَكَةِ نَفْسِهِ فِي الْحِرْصِ وَالِاسْتِئْثَارِ فَكَانَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَى

تِلْكَ الِاسْتِطَاعَةِ مَبْدَأَ طَوْرِ جَدِيدٍ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين:

٥] ، ثُمَّ هَدَاهُ بِوَاسِطَةِ الشَّرَائِعِ فَصَارَ بِاتِّبَاعِهَا يَبْلُغُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ وَيَرْجِعُ إِلَى تَقْوِيمِهِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: ٦] وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا الطَّوْرِ الْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [الْبَقَرَة: ٣٨] الْآيَةَ.

وَجُمْلَةُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَإِمَّا جُمْلَةُ حَال من ضير اهْبِطُوا وَهِيَ اسْمِيَّةٌ خَلَتْ مِنَ الْوَاوِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْوَاوِ حَالًا