وَالْمُجَادَلَةُ إِنَّمَا تكون فِي الشؤون وَالْأَحْوَالِ، فَتَعْلِيقُ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْمَجْرُورِ بِفِعْلِ يُجادِلُونَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، أَيْ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ أَوْ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ.
وَمِنْ جَدَلِهِمْ مَا حَكَاهُ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فِي سُورَةِ يس [٧٧، ٧٨] .
وَالْمِحَالُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ يَحْتَمِلُ هُنَا مَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمِيمُ فِيهِ أَصْلِيَّةً فَهُوَ فِعَالٌ بِمَعْنَى الْكَيْدِ وَفِعْلُهُ مَحَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَمَحَّلَ إِذَا تَحَيَّلَ. جَعَلَ جِدَالَهُمْ فِي اللَّهِ جِدَالَ كَيْدٍ لِأَنَّهُمْ يُبْرِزُونَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي نَحْوِ قَوْلهم: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فَقُوبِلَ بِ شَدِيدُ الْمِحالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ، أَيْ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ لَا يَغْلِبُونَهُ، وَنَظِيرُهُ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سُورَة آل عمرَان: ٥٤] .
وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ: هُوَ مِنْ مَاحَلَ عَنْ أَمْرِهِ، أَيْ جَادَلَ. وَالْمَعْنَى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمُجَادَلَةِ، أَيْ قَوِيُّ الْحُجَّةِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمِيمُ زَائِدَةً فَهُوَ مِفْعَلٌ مِنَ الْحَوْلِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِبْدَالُ الْوَاوِ أَلِفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلْقَلْبِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْوَاوِ سَاكِنٌ سُكُونًا حَيًّا. فَلَعَلَّهُمْ
قَلَبُوهَا أَلِفًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِحْوَلٍ بِمَعْنَى صَبِيٍّ ذِي حَوْلٍ، أَيْ سَنَةٍ.
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ أَخْبَارًا عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ حِينَ وَرَدَا الْمَدِينَة يشترطان لدخلولهما فِي الْإِسْلَامِ شُرُوطًا لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُمَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَمَّ أَرْبَدُ بِقَتْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَفَهُ اللَّهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَاصِدَيْنِ قَوْمَهُمَا وَتَوَاعَدَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَجْلِبَا عَلَيْهِ خَيْلَ بَنِي عَامِرٍ. فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَرْبَدَ بِصَاعِقَةٍ أَصَابَتْهُ وَأَهْلَكَ عَامِرًا بِغُدَّةٍ نَبَتَتْ فِي جِسْمِهِ فَمَاتَ مِنْهَا وَهُوَ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَرْضِ قَوْمِهِ، فَنَزَلَتْ فِي أَرْبَدَ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وَفِي عَامِرٍ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ
.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute