للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاسْتِعْمَالُ لَا يَزالُ فِي أَصْلِهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ بِاسْتِمْرَارِ شَيْءٍ وَاقِعٍ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةً تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عِنْدَ وُقُوعِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ الْمُؤْلِمَةِ بِقُرَيْشٍ مِنْ جُوعٍ أَوْ مَرَضٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَائِمٌ فِيهِمْ حَتَّى يَأْتِي وعد لله. وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ إِصَابَتِهِمْ بِالسِّنِينَ السَّبْعِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٥٥] .

وَمَنْ جَعَلُوا هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةً فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَارِعَةَ السَّرِيَّةُ مِنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تَخْرُجُ لِتَهْدِيدِ قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهُمْ. وَهُوَ لَا ملجىء إِلَيْهِ.

وَالْقَارِعَةُ: فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ مِنَ الْقَرْعِ، وَهُوَ ضَرْبُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ آخَرَ. يُقَالُ: قَرَعَ الْبَابَ إِذَا ضَرَبَهُ بِيَدِهِ بِحَلْقَةٍ. وَلَمَّا كَانَ الْقَرْعُ يُحْدِثُ صَوْتًا مُبَاغِتًا يَكُونُ مُزْعِجًا لِأَجْلِ تِلْكَ الْبَغْتَةِ صَارَ الْقَرْعُ مَجَازًا لِلْمُبَاغَتَةِ وَالْمُفَاجَأَةِ، وَمِثْلُهُ الطَّرْقُ. وَصَاغُوا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ صِيغَةَ تَأْنِيثٍ إِشَارَةً إِلَى مَوْصُوفٍ مُلْتَزَمِ الْحَذْفِ اخْتِصَارًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ مَا يُؤَوَّلُ بِالْحَادِثَةِ أَوِ الْكَائِنَةِ أَوِ النَّازِلَةِ، كَمَا قَالُوا: دَاهِيَةٌ وَكَارِثَةٌ، أَيْ نَازِلَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالْإِزْعَاجِ فَإِنَّ بَغْتَ الْمَصَائِبِ أَشَدُّ وَقْعًا عَلَى النَّفْسِ. وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ سَاعَةِ الْبَعْثِ بِالْقَارِعَةِ.

وَالْمُرَادُ هُنَا الْحَادِثَةِ الْمُفْجِعَةِ بِقَرِينَةِ إِسْنَادِ الْإِصَابَةِ إِلَيْهَا. وَهِيَ مِثْلُ الْغَارَةِ وَالْكَارِثَةِ تَحُلُّ فِيهِمْ فَيُصِيبُهُمْ عَذَابُهَا، أَوْ تَقَعُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ فَيُصِيبُهُمُ الْخَوْفُ مِنْ تَجَاوُزِهَا إِلَيْهِمْ،

فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَارِعَةِ الْغَزْوَ وَالْقِتَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ إِطْلَاقُ اسْمِ الْقَارِعَةِ عَلَى مَوْقِعَةِ الْقِتَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ.

وَمَعْنَى بِما صَنَعُوا بِسَبَبِ فِعْلِهِمْ وَهُوَ كُفْرُهُمْ وَسُوء معاملتهم نبيئهم. وَأَتَى فِي ذَلِكَ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ لِأَعْمَالِهِمْ.

وَضَمِيرُ تَحُلُّ عَائِدٌ إِلَى قارِعَةٌ فَيَكُونُ تَرْدِيدًا لِحَالِهِمْ بَيْنَ إِصَابَةِ الْقَوَارِعِ إِيَّاهُمْ وَبَيْنَ حُلُولِ الْقَوَارِعِ قَرِيبًا مِنْ أَرْضِهِمْ فَهُمْ فِي رُعْبِ مِنْهَا وَفَزَعٍ