أَمَّا التَّعَرُّضُ لِلْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ هُنَا فَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَلِيَجْعَلَ لَهُ حَظٌّ فِي هَذِهِ الْمِنَّةِ وَهُوَ حَظُّ الْوَسَاطَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ غَمِّ المعاندين والمبغضين للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصِدِ وَقَعَ إِظْهَارُ صِفَاتِ فَاعِلِ الْإِنْزَالِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي قَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَقَامُ لِلْإِضْمَارِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: أَنْزَلْناهُ.
وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ إِلَى النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَنَّهُ يُبَلِّغُ هَذَا الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تَبْيِينِ طُرُقِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ فَسَادِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ مَعَ التَّبْلِيغِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ وَيُقَرِّبُ إِلَيْهِمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ بِتَفْسِيرِهِ وَتَبْيِينِهِ، ثُمَّ بِمَا يَبْنِيهِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْبِشَارَةِ. وَإِذْ قَدْ أُسْنِدَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ تَعْلِيلِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ إِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، أَيْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِي الْهِدَايَةِ.
وَتَعْلِيلُ الْإِنْزَالِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ هِيَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ، فَمَنِ اهْتَدَى فَبِإِرْشَادِ اللَّهِ وَمَنْ ضَلَّ فَبِإِيثَارِ الضال هوى نَفسه عَلَى دَلَائِلِ الْإِرْشَادِ، وَأَمْرُ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِحِكَمٍ وَمَصَالِحَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ.
وَالْإِخْرَاجُ: مُسْتَعَارٌ لِلنَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. شَبَّهَ الِانْتِقَالَ بِالْخُرُوجِ فَشَبَّهَ النَّقْلَ بِالْإِخْرَاجِ.
والظُّلُماتِ والنُّورِ اسْتِعَارَةٌ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ فِي حَيْرَةٍ فَهُوَ كَالظُّلْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَالْإِيمَانُ يُرْشِدُ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ كَالنُّورِ فِي إِيضَاحِ السَّبِيلِ. وَقَدْ يَسْتَخْلِصُ السَّامِعُ مِنْ ذَلِكَ تَمْثِيلَ حَالِ الْمُنْغَمِسِ فِي الْكُفْرِ بِالْمُتَحَيِّرِ فِي ظُلْمَةٍ، وَحَالِ انْتِقَالِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِحَالِ الْخَارِجِ مِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى مَكَانٍ نَيِّرٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute