للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَ (يَسْتَحِبُّونَ) بِمَعْنَى يُحِبُّونَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ اسْتَقْدَمَ واستأخر. وَضُمِّنَ يَسْتَحِبُّونَ مَعْنَى يُؤْثِرُونَ، لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَعَدَّتْ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَقِبَ ذِكْرِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ لَهُمْ، فَأَنْبَأَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ خَيْرَ الدُّنْيَا دُونَ خَيْرِ الْآخِرَةِ إِذْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فِي شَقَاءٍ، فَنَشَأَ مِنْ هَذَا مَعْنَى الْإِيثَارِ، فَضَمَّنَهُ فَعُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ آخَرَ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ عَلَى فِي قَوْلِهِ:

عَلَى الْآخِرَةِ أَيْ يُؤْثِرُونَهَا عَلَيْهَا.

وَقَوْلُهُ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٥] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٩] ، فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ.

وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: مَنْعُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ. شَبَّهَ ذَلِكَ بِمَنْ

يَمْنَعُ الْمَارَّ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ. وَجُعِلَ الطَّرِيقُ طَرِيقَ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَى مَرْضَاتِهِ فَكَأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَيْهِ، أَوْ يَصُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا مَوَاهِبَهُمْ وَمَدَارِكَهُمْ مِنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُمْ صَدُّوهَا عَنِ السَّيْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَ السَّبِيلَ الْعَوْجَاءَ، فَعُلِمَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ مُسْتَقِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [سُورَة الْأَنْعَام:

١٥٣] .

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الضَّلَالِ بِسَبَبِ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَابْتِغَائِهِمْ سَبِيلَ الْبَاطِلِ، فَ أُولئِكَ فِي مَحَلِّ مُبْتَدَأٍ وفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ خَبَرٌ عَنْهُ. وَدَلَّ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَ مُحِيطٌ بِهِمْ فَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ.

وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ هُمُ الضَّالُّونَ، أَيْ ضَلَالًا بَعُدُوا بِهِ عَنِ الْحَقِّ فَأُسْنِدَ الْبُعْدُ إِلَى سَبَبِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَصْفُهُ بِالْبُعْدِ عَلَى تَشْبِيهِهِ بِالطَّرِيقِ الشَّاسِعَةِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ رُجُوعُ سَالِكِهَا، أَيْ ضَلَالٍ قَوِيٍّ يَعْسُرُ إِقْلَاعُ صَاحِبِهِ عَنْهُ. فَفِيهِ اسْتِبْعَادٌ