للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْقَوْمُ: الْأُمَّةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَقَوْمُ كُلِّ أَحَدٍ رَهْطُهُ الَّذِينَ جَمَاعَتُهُمْ وَاحِدَةٌ وَيَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْمُ كُلِّ رَسُولٍ أُمَّتُهُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ الرُّسُلُ يُبْعَثُونَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، وَقَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الْعَرَبُ، وَأَمَّا أُمَّتُهُ فَهُمُ الْأَقْوَامُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ وَهُمُ النَّاسُ كَافَّةً.

وَإِنَّمَا كَانَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَنَزَلَ الْكِتَابُ بِلُغَتِهِمْ لِتَعَذُّرِ نُزُولِهِ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، فَاخْتَارَ اللَّهُ أَنْ يكون رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- مِنْ أُمَّةٍ هِيَ أَفْصَحُ الْأُمَمِ لِسَانًا، وَأَسْرَعُهُمْ أَفْهَامًا، وَأَلْمَعُهُمْ ذَكَاءً، وَأَحْسَنُهُمْ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ فِي حَيَاتِهِ عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ عَمَّ الْإِسْلَامُ بِلَادَ الْعَرَبِ وَقَدْ حَجَّ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ نَحْوَ خَمْسِينَ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ. وَقِيلَ مِائَةُ أَلْفٍ وَهْمُ الرِّجَالُ الْمُسْتَطِيعُونَ.

وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِمْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا أَصْلَحُ اللُّغَاتِ جَمْعَ مَعَانٍ، وَإِيجَازَ عِبَارَةٍ، وَسُهُولَةَ جَرْيٍ عَلَى الْأَلْسُنِ، وَسُرْعَةَ حِفْظٍ، وَجَمَالَ وَقْعٍ فِي الْأَسْمَاعِ، وَجُعِلَتِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ المتلقية للْكتاب بادىء ذِي بَدْءٍ، وَعُهِدَ إِلَيْهَا نَشْرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ.

وَفِي التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ الْبَيَانَ كَانَتْ أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إِلَى التَّبْيِينِ مِنْ بَيْنِ لُغَاتِ الْأُمَمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ هِيَ اللُّغَةُ الَّتِي هِيَ أَجْدَرُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْكِتَابُ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٩٥] . فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَطَاوِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِهَا الرَّدُّ عَلَى طَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةٍ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا كِتَابٌ قَبْلَهُ اقْتَصَرَ فِي رَدِّ خَطَئِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُهِمُّهُمْ.