خَشْيَةَ الْمُزَاحَمَةِ فِي الْجَاهِ وَالْمَنَافِعِ فَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْهُمْ وَعَنْ عِلْمِهِمْ صَادِعًا بِمَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ خَاصَّتِهِمْ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ لِلْكِتَابِيِّينَ قَائِمَةً مَقَامَ الْمُعْجِزَةِ الْبَلَاغِيَّةِ لِلْأُمِّيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَامُ بِهَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ. وَقَدْ رُوعِيَتْ فِي هَذَا الِانْتِقَالِ مُسَايَرَةُ تَرْتِيبِ كتب التَّوْرَاة إِذا عَقَّبَتْ كِتَابَ التَّكْوِينِ بِكِتَابِ الْخُرُوجِ أَيْ وَصْفِ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مُدَّةِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ بَعْثَةِ مُوسَى، وَقَدِ اقْتَصَرَ مِمَّا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ عَلَى ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ وَإِسْكَانِهِ الْأَرْضَ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ فِيهَا عِبَرًا جَمَّةً لَهُمْ وَلِلْأُمَّةِ.
فَقَوْلُهُ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ خِطَابٌ لِذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ انْحَصَرَ سَائِرُ الْأُمَّةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَقَدْ خَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ دُونَ أَنْ يَقُولَ يَا أَيُّهَا الْيَهُودُ لِكَوْنِهِ هُوَ اسْمَ الْقَبِيلَةِ أَمَّا الْيَهُودُ فَهُوَ اسْمُ النِّحْلَةِ وَالدِّيَانَةِ وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَّبِعًا دِينَ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَحِمْيَرَ لَمْ يُعَتَدَّ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَوْ آمَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَآمَنَ أَتْبَاعُهُمْ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ تَبَعٌ لِمُقَلِّدِهِ. وَلِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعَمٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَسْلَافِهِمْ وَكَرَامَاتٍ أَكْرَمَهُمْ بِهَا فَكَانَ لِنِدَائِهِمْ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ وَأَعْقَابَهُ مَزِيدُ مُنَاسَبَةٍ لِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا ذُكِّرُوا بِعُنْوَانِ التَّدَيُّنِ بِدِينِ مُوسَى ذُكِّرُوا بِوَصْفِ الَّذِينَ هَادُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [الْبَقَرَة: ٦٢] الْآيَةَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وَتَوْجِيهُ الْخُطَّابِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَشْمَلُ عُلَمَاءَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ لِأَنَّ مَا خُوطِبُوا بِهِ هُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى أَسْلَافِهِمْ وَبِعَهْدِ اللَّهِ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ نَجِدُ خِطَابَهُمْ فِي الْأَغْرَاضِ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا التَّسْجِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ يَكُونُ بِنَحْوِ يَا أَهْلَ الْكِتابِ [آل عمرَان: ٦٤] أَوْ بِوَصْفِ الْيَهُودِ الَّذِينَ هَادُوا أَوْ بِوَصْفِ النَّصَارَى، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْغَرَضُ التَّسْجِيلَ عَلَى عُلَمَائِهِمْ نَجِدُ الْقُرْآنَ يُعَنْوِنُهُمْ بِوَصْفِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [النِّسَاء: ٤٧] أَوِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الْأَنْعَام: ٢٠] . وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْخَبَرِ الْمَسُوقِ مِمَّا يُنَاسِبُ عُلَمَاءَهُمْ خَاصَّةً مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٧٥] . وَنَحْوَ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: ٤١] وَنَحْوَ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٤٢] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [الْبَقَرَة: ٧٩] الْآيَةَ وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا
مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
[الْبَقَرَة: ٨٩] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute