وَالنُّزُولُ: التَّدَلِّي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا انْتِقَالُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ نُزُولًا مَخْصُوصًا. وَهُوَ نُزُولُهُمْ لِتَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ بِعَذَابٍ يُرْسِلُهُ عَلَى
الْكَافِرِينَ، كَمَا أُنْزِلُوا إِلَى مَدَائِنِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلَيْسَ مِثْلَ نُزُولِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِالشَّرَائِعِ أَوْ بِالْوَحْيِ. قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ زَكَرِيَّاءَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [سُورَة آل عمرَان: ٣٩] .
وَالْمُرَادُ بِ «الْحَقِّ» هُنَا الشَّيْءُ الحاقّ، أَي الْمُقْتَضِي، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْمَقْضِيِّ. وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ الْعَذَابُ الْحَاقُّ. قَالَ تَعَالَى:
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [سُورَة الْحَج: ١٨] وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ، أَيْ لَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ لِلنَّاسِ غَيْرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ. عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَّا مُصَاحِبِينَ لِلْعَذَابِ الْحَاقِّ عَلَى النَّاسِ كَمَا تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ. وَلَوْ تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لَعُجِّلَ لِلْمُنْزَلِ عَلَيْهِمْ وَلَمَا أُمْهِلُوا.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ مُنْظِرُهُمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ اسْتِئْصَالَهُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَشْرُ الدِّينِ بِوَاسِطَتِهِمْ فَأَمْهَلَهُمْ حَتَّى اهْتَدَوْا، وَلَكِنَّهُ أَهْلَكَ كُبَرَاءَهُمْ وَمُدَبِّرِيهِمْ.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨] : وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ. وَقَدْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بدر يقطعون رُؤُوس الْمُشْرِكِينَ.
وَالْإِنْظَارُ: التَّأْخِيرُ وَالتَّأْجِيلُ.
وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاء. وَقد وسطت هُنَا بَيْنَ جُزْأَيْ جَوَابِهَا رَعْيًا لِمُنَاسَبَةِ عَطْفِ جوابها على قَول: مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ. وَكَانَ شَأْنُ (إِذَنْ) أَنْ تَكُونَ فِي صَدْرِ جَوَابِهَا. وَجُمْلَتُهَا هِيَ الْجَوَابُ الْمَقْصُود لقَولهم: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [سُورَة الْحجر:
٧] . وَجُمْلَة مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِأَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلْجَوَابِ، فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي الرَّدِّ، وَلِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِإِيجَازِ الْجَوَابِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute