وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِلْمَلَائِكَةِ الْمَادَّةَ الَّتِي مِنْهَا خُلِقَ الْبَشَرُ لِيَعْلَمُوا أَنَّ شَرَفَ الْمَوْجُودَاتِ بِمَزَايَاهَا لَا بِمَادَّةِ تَرْكِيبِهَا كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ.
وَالتَّسْوِيَةُ: تَعْدِيلُ ذَاتِ الشَّيْءِ. وَقَدْ أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى اعْتِدَالِ الْعَنَاصِرِ فِيهِ وَاكْتِمَالِهَا
بِحَيْثُ صَارَتْ قَابِلَةً لِنَفْخِ الرُّوحِ.
وَالنَّفْخُ: حَقِيقَتُهُ إِخْرَاجُ الْهَوَاءِ مَضْغُوطًا بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ كَالصَّفِيرِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِوَضْعِ قُوَّةٍ لَطِيفَةِ السَّرَيَانِ قَوِيَّةِ التَّأْثِيرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ ثَمَّةَ نَفْخٍ وَلَا مَنْفُوخٍ.
وَتَقْرِيبُ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْحَيِّ أَنَّهُ تَكُونُ الْقُوَّةُ الْبُخَارِيَّةُ أَوِ الْكَهْرَبَائِيَّةُ الْمُنْبَعِثَةُ مِنَ الْقَلْبِ عِنْدَ انْتِهَاءِ اسْتِوَاءِ الْمِزَاجِ وَتَرْكِيبِ أَجْزَاءِ الْمِزَاجِ تَكَوُّنًا سَرِيعًا دَفْعِيًّا وَجَرَيَانِ آثَارِ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي تَجَاوِيفِ الشَّرَايِينِ إِلَى أَعْمَاقِ الْبَدَنِ فِي تَجَاوِيفِ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ الرَّئِيسَةِ وَغَيْرِهَا.
وَإِسْنَادُ النَّفْخِ وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حَقَائِقَ الْعَنَاصِرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَفَاضَلُ إِلَّا بِتَفَاضُلِ آثَارِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الذَّاتِ أَوِ الرَّائِحَةِ إِلَى حَالَةٍ يَكْرَهُهَا بَعْضُ النَّاسِ أَوْ كُلُّهُمْ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا يُلَائِمُ الْإِدْرَاكَ الْحِسِّيَّ أَوْ يُنَافِرُهُ تَبَعًا لِطِبَاعِ الْأَمْزِجَةِ أَوْ لِإِلْفِ الْعَادَةِ وَلَا يُؤْبَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ ضَابِطُ وَصْفِ الْقَذَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ عِنْدَ الْبَشَرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنِيَّ يُسْتَقْذَرُ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ تَكْوِينَ نَوْعِهِ، وَمِنْهُ تَخَلَّقَتْ أَفَاضِلُ الْبَشَرِ. وَكَذَلِكَ الْمِسْكُ طَيِّبٌ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ لِمُلَاءَمَةِ رَائِحَتِهِ لِلشَّمِّ وَمَا هُوَ إِلَّا غُدَّةٌ مِنْ خَارِجَاتِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْغَزَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [سُورَة السَّجْدَة: ٧- ٩] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute