للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ.

جَمْعُ الضَّمِيرِ فِي تَكُونُوا مَعَ إِفْرَادِ لَفْظِ كافِرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَافِرِ فَرِيقٌ ثَبَتَ لَهُ الْكُفْرُ لَا فَرْدٌ وَاحِدٌ فَإِضَافَةُ أَوَّلَ إِلَى كافِرٍ بَيَانِيَّةٌ تُفِيدُ مَعْنَى فَرِيقٍ هُوَ أَوَّلُ فِرَقِ الْكَافِرِينَ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي بِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى بِما أَنْزَلْتُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الدَّعْوَةِ وَاسْتِجْلَابِ

الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَكَانَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ مُحْتَمِلَةً لِطَلَبِ الِامْتِثَالِ بِالْفَوْرِ أَوْ بِالتَّأْخِيرِ وَكَانُوا مَعْرُوفِينَ بِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، عَطَفَ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ نَهْيَهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِالْقُرْآنِ وَذَلِكَ يُصَدَّقُ بِمَعَانٍ بَعْضُهَا يُسْتَفَادُ مِنْ حَقِّ التَّرْكِيبِ وَبَعْضُهَا مِنْ لَوَازِمِهِ وَبَعْضُهَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِهِ وَكُلُّهَا تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ، فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: أَوَّلَ كافِرٍ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ السَّابِقُ غَيْرَهُ فَيَحْصُلُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ فَالنَّهْيُ عَنِ الْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ ثُمَّ إِنَّ وَصْفَ (أَوَّلَ) يُشْعِرُ بِتَقْيِيدِ النَّهْيِ بِالْوَصْفِ وَلَكِنْ قَرِينَةُ السِّيَاقِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ تَقْيِيدُ النَّهْيِ عَنِ الْكُفْرِ بِحَالَةِ أَوَّلِيَّتِهِمْ فِي الْكُفْرِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مُبَادِرِينَ بِالْكُفْرِ وَلَا سَابِقِينَ بِهِ غَيْرَهُمْ لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنْهُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فَأُفِيدَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ فَإِنَّ وَصْفَ أَوَّلَ أَصْلُهُ السَّابِقُ غَيْرَهُ فِي عَمَلٍ يُعْمَلُ أَوْ شَيْءٍ يُذْكَرُ فَالسَّبْقُ وَالْمُبَادَرَةُ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْأُولَى لِأَنَّهَا بَعْضُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ نَقِيضَيْنِ إِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ كَانَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْكَافِرِينَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى تَأَخُّرِهِمْ فِي اتِّبَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ هَذَا الْمُرَكَّبُ قَدْ كُنِّيَ بِهِ عَنْ مَعْنَيَيْنِ مِنْ مَلْزُومَاتِهِ، هُمَا مَعْنَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى التَّوْبِيخِ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالنَّهْيِ، فَيَكُونُ مَعْنَى النَّهْيِ مُرَادًا وَلَازِمُهُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمُبَادَرَةِ بِالْإِيمَانِ مُرَادًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ كِنَايَةً اجْتَمَعَ فِيهَا الْمَلْزُومُ وَاللَّازِمُ مَعًا، فَبِاعْتِبَارِ اللَّازِمِ يَكُونُ النَّهْيُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ فَيَتَأَكَّدُ بِهِ الْأَمْرُ الَّذِي قَبْلَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ وَكُونُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَلْزُومِ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ غَرَضَانِ.