للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنْ يُرَادَ مِنْ «أَوَّلَ» الْمُبَادِرُ وَالْمُسْتَعْجِلُ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَوَّلِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: ٨١] وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَقْرُومٍ الضَّبِّيُّ:

فَدَعَوْا نَزَالِ فَكُنْتُ أَوَّلَ نَازِلٍ ... وَعَلَامَ أَرْكَبُهُ إِذَا لَمْ أَنْزِلِ

فَقَوْلُهُ: أَوَّلَ نَازِلٍ لَا يُرِيدُ تَحْقِيقَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ بَادَرَ مَعَ النَّاسِ فَإِنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُ إِذَا دَعَا الْقَوْمُ نَزَالِ أَنْ يَنْزِلَ السَّامِعُونَ كُلُّهُمْ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَرَبَّصْ.

وَيَكُونُ الْمَعْنَى وَلَا تَعْجَلُوا بِالتَّصْرِيحِ بِالْكُفْرِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْكُفْرِ هُنَا التَّصْمِيمُ عَلَيْهِ لَا الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَتَكُونُ الْكِنَايَةُ بِالْمُفْرَدِ وَهُوَ كَلِمَةُ (أَوَّلَ) .

الْمَعْنَى الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ «أَوَّلَ» كِنَايَةً عَنِ الْقُدْوَةِ فِي الْأَمْرِ لِأَنَّ الرَّئِيسَ وَصَاحِبَ اللِّوَاءِ وَنَحْوَهُمَا يَتَقَدَّمُونَ الْقَوْمَ، قَالَ تَعَالَى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [هود: ٩٨] وَقَالَ

خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:

فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مِنْ يَسِيرُهَا

أَيِ الْأَجْدَرُ وَالنَّاصِرُ لِسُنَّةٍ، وَالْمَعْنَى وَلَا تَكُونُوا مُقِرِّينَ لِلْكَافِرِينَ بِكُفْرِكُمْ فَإِنَّهُمْ إِنْ شَاهَدُوا كُفْرَكُمْ كَفَرُوا اقْتِدَاءً بِكُمْ وَهَذَا أَيْضًا كِنَايَةٌ بِالْمُفْرَدِ.

الْمَعْنَى الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الدَّعْوَةُ فِي الْمَدِينَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ هُوَ حَالٌ ثَانِيَة لِلْإِسْلَامِ، فِيمَا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ مُتَمَيِّزًا مُسْتَقِلًّا.

هَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: كافِرٍ بِهِ عَائِدًا على مَا بِما أَنْزَلْتُ أَيِ الْقُرْآنِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي مُقَابِلِ الْإِيمَانِ بِهِ. وَقِيلَ إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَا مَعَكُمْ وَهُوَ التَّوْرَاةُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِيءُ أَوَّلَ كافِرٍ مُسْتَقِيمًا عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ» وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ تكلّف لِأَنَّهُ مؤول بِأَنَّ كُفْرَهُمْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الَّذِي جَاءَ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفَتِ التَّوْرَاةُ وَكُتُبُ أَنْبِيَائِهِمْ فِي بِشَارَاتِهِمْ بِنَبِيءٍ وَكِتَابٍ يَكُونَانِ مِنْ بَعْدِ مُوسَى فَإِذَا كَذَّبُوا بِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرُوا بِصِحَّةِ مَا فِي التَّوْرَاةِ فَيُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ بِمَا مَعَهم.

قَالَ التفتازانيّ: وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ كُفْرُهُمْ بِهِ بِمَعْنَى ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ كُلَّهُ كَذِبٌ وَأَمَّا إِذَا كَفَرُوا بِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ فِيهِ صِدْقًا وَكَذِبًا فَلَا يَتِمُّ، وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْوَجْهُ مَرْجُوحًا، وَرَدَّهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ.