إِلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مَنْ جَاءَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ فَلَا جَرَمَ كَانَ الِاعْتِنَاءُ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ مُقَدَّمًا عَلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْمُبْدَأُ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [سُورَة النَّحْل: ٢] .
وَعُدِّدَتْ دَلَائِلُ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهَا مُتَضَمِّنَةً نِعَمًا جَمَّةً عَلَى النَّاسِ إِدْمَاجًا لِلِامْتِنَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ قَدْ كَفَرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ إِذْ شَكَرُوا مَا لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِمْ وَنَسُوا مَنِ انْفَرَدَ بِالْإِنْعَامِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ الْكُفْرَانِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عَطْفُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٤] عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: ١٧] .
وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ وَأَجْمَعُ لِأَنَّهَا مَحْوِيَّةٌ لَهُمَا، وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِمَا، لَكِن مَا فِيهِ مِنْ إِجْمَالِ الْمَحْوِيَّاتِ اقْتَضَى أَنْ يُعَقَّبَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِأَصْنَافِ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقَاتِ فَثَنَّى بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ
وَأَطْوَارِهِ وَهُوَ أَعْجَبُ الْمَوْجُودَاتِ الْمُشَاهَدَةِ، ثُمَّ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ وأحواله لِأَنَّهُ يجمع الْأَنْوَاعَ الَّتِي تَلِي الْإِنْسَانَ فِي إِتْقَانِ الصُّنْعِ مَعَ مَا فِي أَنْوَاعِهَا مِنَ الْمِنَنِ، ثُمَّ بِخَلْقِ مَا بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ، ثُمَّ بِخَلْقِ أَسْبَابِ الْأَزْمِنَةِ وَالْفُصُولِ وَالْمَوَاقِيتِ، ثُمَّ بِخَلْقِ الْمَعَادِنِ الْأَرْضِيَّةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْبِحَارِ ثُمَّ بِخَلْقِ الْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ وَالطُّرُقَاتِ وَعَلَامَاتِ الِاهْتِدَاءِ فِي السَّيْرِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقَ إِذِ الْخَلْقُ هُوَ الْمُلَابِسُ لِلْحَقِّ.
وَالْحَقُّ: هُنَا ضِدُّ الْعَبَثِ، فَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَالْجَدِّ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [سُورَة ص: ٢٧] . وَالْحَقُّ وَالصِّدْقُ يُطْلَقَانِ وَصْفَيْنِ لِكَمَالِ الشَّيْءِ فِي نَوْعِهِ.
وَجُمْلَةُ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُعْتَرِضَةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute