فَنِعْمَةُ الْإِيجَادِ تَقْضِي عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَشْكُرَ مُوجِدَهُ، فَإِذَا جَحَدَ وُجُودَهُ أَوْ جَحَدَ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ الَّذِي وُجِدَ عَلَى شَرْطِهِ، فَاسْتَحَقَّ الْمَحْوَ مِنَ الْوُجُودِ بِالِاسْتِئْصَالِ وَالْإِفْنَاءِ.
وَبِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظُّلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِظُلْمِهِمْ الْإِشْرَاكُ أَوِ التَّعْطِيلُ.
وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِك من الاهتداء عَلَى حَقِّ اللَّهِ بِمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، أَوْ عَلَى حُقُوقِ الْمَخْلُوقَاتِ بِاغْتِصَابِهَا فَهُوَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا اعْتِدَاءُ أَحَدٍ عَلَى وُجُودِ إِنْسَانٍ آخَرَ مُحْتَرَمِ الْحَيَاةِ فيعدمه عمدا، لذَلِك جَزَاؤُهُ الْإِفْنَاءُ لِأَنَّهُ أَفْنَى مُمَاثِلَهُ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى إِفْنَاءِ مَنْ مَعَهُ، وَمَا دُونُ ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ لَهُ عِقَابٌ دُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ غَيْرُ الشِّرْكِ الْإِهْلَاكَ، وَلَكِنْ شَأْنُ الْعِقَابِ أَنْ يُقْصَرَ عَلَى الْجَانِي.
فَوَجْهُ اقْتِضَاءِ الْعِقَابِ عَلَى الشِّرْكِ إِفْنَاءُ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَدَوَابِّهِمْ أَنَّ إِهْلَاكَ الظَّالِمِينَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحَوَادِثَ عَظِيمَةٍ لَا تَتَحَدَّدُ بِمِسَاحَةِ دِيَارِهِمْ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِهْلَاكِ لَا تَتَحَدَّدُ فِي عَادَةِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، فَلِذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْإِهْلَاكُ النَّاسَ غَيْرَ الظَّالِمِينَ وَيَتَنَاوَلُ دَوَابَّهُمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الظُّلْمُ، أَيِ الْإِشْرَاكُ لَمْ تَخْلُ مِنْهُ الْأَرْضُ لَزِمَ مِنْ إِهْلَاكِ أَهْلِ الظُّلْمِ سَرَيَانُ الْإِهْلَاكِ إِلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ فَاضْمَحَلَّ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ فَيَأْتِي الْفَنَاءُ فِي قُرُونٍ مُتَوَالِيَةٍ مِنْ زَمَنِ نُوحٍ مَثَلًا، فَلَا يُوجَدُ عَلَى الْأَرْضِ دَابَّةٌ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ.
فَأَمَّا مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْمُشْرِكَةِ مِنْ صَالِحِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ لِلصَّالِحِينَ أَسْبَابَ النَّجَاةِ بِأَحْوَالٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سُورَة الزمر: ٦١] . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ نَجَّى هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ نَجَّى أَنْبِيَاءَ آخَرِينَ. وَكَفَاكَ نَجَاةُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مِنَ الطُّوفَانِ فِي السَّفِينَةِ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّ تَأْخِيرَهُمْ مُتَفَاوِتُ
الْآجَالِ، فَفِي مَدَدِ تِلْكَ الْآجَالِ تَبْقَى أَقْوَامٌ كَثِيرَةٌ تَعْمُرُ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَذَلِكَ سَبَبُ بَقَاءِ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ حَوْلِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute