للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ فَيُرَادُ بِهَا الْوَسَطُ بَيْنَ مَرْتَبَتَيْنِ كَقَوْلِهِمُ: الشَّجَاعَةُ صِفَةٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ. فَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ هَذَا التَّعْبِيرُ الْقَرِيبُ لِلْأَفْهَامِ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّاسِ بِحَسَبِ مَبَالِغِ عِلْمِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْحَقِيقَةِ.

وَالْمَعْنَى: إِفْرَازٌ لَيْسَ هُوَ بِدَمٍ لِأَنَّهُ أَلْيَنُ مِنَ الدَّمِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ بَاقٍ فِي عُرُوقِ الضَّرْعِ كَبَقَاءِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْفَضَلَاتِ فِي لُزُومِ إِفْرَازِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْفَضْلَةِ لِأَنَّهُ إِفْرَازٌ

طَاهِرٌ نَافِعٌ مُغَذٍّ، وَلَيْسَ قَذَرًا ضَارًّا غَيْرَ صَالِحٍ لِلتَّغْذِيَةِ كَالْبَوْلِ وَالثُّفْلِ.

وَمَوْقِعُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ مَوْقِعُ الصِّفَةِ لِ لَبَناً، قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ، فَكَانَ لَهَا مَزِيدُ اهْتِمَامٍ، وَقَدْ صَارَتْ بِالتَّقْدِيمِ حَالًا.

وَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ يَحْصُلُ فِي الضَّرْعِ لَا فِي الْبَطْنِ جُعِلَ مَفْعُولًا لِ نُسْقِيكُمْ، وَجُعِلَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ تَبْيِينًا لِمَصْدَرِهِ لَا لِمَوْرِدِهِ، فَلَيْسَ اللَّبَنُ مِمَّا فِي الْبُطُونِ وَلِذَلِكَ كَانَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُتَقَدِّمًا فِي الذِّكْرِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ وَلَيْسَ وَصْفًا لِلَّبَنِ.

وَقَدْ أَحَاطَ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلَّبَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ.

فَخُلُوصُهُ نَزَاهَتُهُ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ وَالثُّفْلُ، وَسَوْغُهُ لِلشَّارِبِينَ سَلَامَتُهُ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الدَّمُ مِنَ الْمَضَارِّ لِمَنْ شَرِبَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يُسِيغُهُ الشَّارِبُ وَيَتَجَهَّمُهُ.

وَهَذَا الْوَصْفُ الْعَجِيبُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ، إِذْ هُوَ وَصْفٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَعْرِفَ دَقَائِقَ تَكْوِينِهِ، وَلَا أَنْ يَأْتِيَ عَلَى وَصْفِهِ بِمَا لَوْ وَصَفَ بِهِ الْعَالِمُ الطَّبِيعِيُّ لَمْ يَصِفْهُ بِأَوْجَزَ مِنْ هَذَا وَأَجْمَعِ.

وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ، فَقَدْ يُرَاعَى