آيَاتِ الْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِآيَاتٍ أُخْرَى لِاخْتِلَافِ الْمُقْتَضِي وَالْمَقَامِ. وَالْمُغَايَرَةِ بِاللِّينِ وَالشِّدَّةِ، أَوْ بِالتَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتْبَعُ اخْتِلَافُهُ اخْتِلَافَ الْمَقَامَاتِ وَاخْتِلَافَ الْأَغْرَاضِ وَاخْتِلَافَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَيَتَّخِذُونَ مِنْ ظَاهِرِ ذَلِكَ دُونَ وَضْعِهِ مَوَاضِعَهُ وَحَمْلِهِ مَحَامِلَهُ مَغَامِزَ يَتَشَدَّقُونَ بِهَا فِي نَوَادِيهِمْ، يَجْعَلُونَ ذَلِكَ اضْطِرَابًا مِنَ الْقَوْلِ وَيَزْعُمُونَهُ شَاهِدًا بِاقْتِدَاءِ قَائِلِهِ فِي إِحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ أَوْ كِلْتَيْهِمَا. وَبَعض ذَلِك ناشىء عَنْ قُصُورِ مَدَارِكِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَرَامِي الْقُرْآنِ وَسُمُوِّ مَعَانِيه، وَبَعضه ناشىء عَنْ تَعَمُّدٍ لِلتَّجَاهُلِ تَعَلُّقًا بِظَوَاهِرِ الْكَلَامِ يُلَبِّسُونَ بِذَلِكَ عَلَى ضُعَفَاءِ الْإِدْرَاكِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُونَ وَلَكِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِيهَا شِدَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَلْيَنُ مِنْهَا يَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، الْيَوْمَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ وَغَدًا يَنْهَى عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ» اه.
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي حَاصِلِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ مِنَ التَّبْدِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَدَّلْنا مُطْلَقُ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَامَاتِ، أَوِ التَّغَايُرُ فِي الْمَعَانِي وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَقَامَاتِ مَعَ وُضُوحِ الْجَمْعِ بَين محاملها.
والمرد بِالْآيَةِ الْكَلَامُ التَّامُّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَلَامَةَ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْنِي الْمُعْجِزَةَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ.
فَيَشْمَلُ التَّبْدِيلُ نَسْخَ الْأَحْكَامِ مِثْلُ نَسْخِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ
بِها
[سُورَة الْإِسْرَاء: ١١٠] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سُورَة الْحجر: ٩٤] . وَهَذَا قَلِيلٌ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي يُقْرَأُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ نَسْخَ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا كَثُرَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ حِينَ تَكَوَّنَتِ الْجَامِعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ فَلَمْ يَرِدْ مِنَ الْآثَارِ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ فِي مَكَّةَ فَمَنْ فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ كَمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ فَهُوَ مُشْكِلٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute