عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مُقَابِلٌ لِمَضْمُونِ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [سُورَة النَّحْل: ٩٧] ، فَحَصَلَ التَّرْهِيبُ بَعْدَ التَّرْغِيبِ، كَمَا ابْتُدِئَ بِالتَّحْذِيرِ تَحَفُّظًا عَلَى الصَّالِحِ مِنَ الْفَسَادِ، ثُمَّ أُعِيدَ الْكَلَامُ بِإِصْلَاحِ الَّذِينَ اعْتَرَاهُمُ الْفَسَادُ، وَفُتِحَ بَابُ الرُّخْصَةِ لِلْمُحَافِظِينَ عَلَى صَلَاحِهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ إِنْ كَانَتْ تُشِيرُ إِلَى نَفَرٍ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ كَانَتْ مَنْ مَوْصُولَةً وَهِيَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ. وَقَرَنَ الْخَبَرَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ فِي الْمُبْتَدَأِ شَبَهًا بِأَدَاةِ الشَّرْطِ. وَقَدْ يُعَامَلُ الْمَوْصُولُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [سُورَة البروج: ١٠] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِلَى قَوْلِهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٣٤] . وَقِيلَ إِنَّ فَرِيقًا كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، كَمَا رُوِيَ فِي شَأْنِ جَبْرٍ غُلَامِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَلْيَقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [سُورَة النَّحْل: ١٠٨] الْآيَةَ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فَالْآيَةُ مُجَرَّدُ تَحْذِيرٍ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ مَنْ شَرْطِيَّةً، وَالشَّرْطُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ مُعَيَّنٌ بَلْ هُوَ تَحْذِيرٌ، أَيْ مِنْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ فِي الشَّرْطِ يَنْقَلِبُ إِلَى مَعْنَى الْمُضَارِعِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ جَوَابًا.
وَالتَّحْذِيرُ حَاصِلٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فَهُوَ تَرْخِيصٌ وَمَعْذِرَةٌ لِمَا صَدَرَ مِنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَمْثَالِهِ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ عَذَابُ مَنْ فَتَنُوهُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ مَنْ كَفَرَ لِئَلَّا يَقَعَ حُكْمُ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، أَيْ إِلَّا مَنْ أَكْرَهَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْكُفْرِ، أَيْ عَلَى إِظْهَارِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute