فَلَمَّا كَانَ التَّحْرِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى اسْتِدَامَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ مُحْتَاجًا لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ بَيَّنَتِ الْحِكْمَةُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَصِيرِ النَّاسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ النَّاسِ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، أَيْ فَلَا تَيْأَسْ مِنْ هِدَايَتِهِمْ وَلَا تَتَجَاوَزْ إِلَى حَدِّ الْحُزْنِ عَلَى عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَنْ يَهْتَدِي وَمَنْ يَضِلُّ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا عَلَيْكَ التَّبْلِيغُ فِي كُلِّ حَالٍ. وَهَذَا قَوْلٌ فَصْلٌ بَيْنَ فَرِيقِ الْحَقِّ وَفَرِيقِ الْبَاطِلِ.
وَقَدَّمَ الْعِلْمَ بِمَنْ ضَلَّ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ دَعْوَتَهُمْ أَوْكَدُ وَالْإِرْشَادُ إِلَى اللِّينِ
فِي جَانِبِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُجَادَلَةِ الْحُسْنَى أَهَمُّ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ بِالْمُهْتَدِينَ عَلَى وَجْهِ التَّكْمِيلِ.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَنْ أَيِسَ مِنْ إِيمَانِهِ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَأَمَّا إِنَّ فَهِيَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ لَيْسَتْ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى مَا أَوْضَحَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ فَإِنَّ إِفَادَتَهَا التَّأْكِيدَ هُنَا مُسْتَغْنًى عَنْهَا بِوُجُودِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ لِقَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، فَإِنَّ الْقَصْرَ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ.
وَإِعَادَةُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى تَقْوِيَةِ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَأَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَلَى أَنه خبر (لإنّ) غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حَيِّزِ التَّقْوِيَةِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ، فَأُعِيدَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ.
وَلَمْ يَقُلْ: وبالمهتدين، تَصْرِيحًا بِالْعِلْمِ فِي جَانِبِهِمْ لِيَكُونَ صَرِيحًا فِي تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَهَذَانِ الْقَصْرَانِ إِضَافِيَّانِ، أَيْ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَالْمُهْتَدِينَ، لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَأَنَّكُمْ ضَالُّونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute