ثُمَّ إِنَّ الصِّفَتَيْنِ عَلَى تَقْدِير كَونهمَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمَا عَلَى أَصْلِ اشْتِقَاقِهِمَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَبُولِهِمَا لِتَلَقِّي تِلْكَ الْمُشَاهَدَاتِ الْمُدْهِشَةِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْم: ١٧] ، وَقَوْلُهُ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى [النَّجْم: ١٢] .
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْمُنَاسِبُ أَنْ تُؤَوَّلَا بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ الْمُبْصِرِ، أَيِ الْقَادِرِ عَلَى إِسْمَاعِ عَبْدِهِ وَإِبْصَارِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ
أَيْ الْمُسْمِعُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْإِسْرَاءِ أَكَانَ بِجَسَدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
أَمْ كَانَ بِرُوحِهِ فِي رُؤْيَا هِيَ مُشَاهَدَةٌ رُوحَانِيَّةٌ كَامِلَةٌ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا:
هُوَ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِرُوحِهِ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الِامْتِنَانَ فِي الْآيَةِ وَتَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ بِالْجَسَدِ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا اسْتَوْصَفُوا من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَامَاتٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِي طَرِيقِهِ فَوَصَفَهَا لَهُمْ كَمَا هِيَ، وَوَصَفَ لَهُمْ عِيرًا لِقُرَيْشٍ قَافِلَةً فِي طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَيَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَوَجَدُوهُ كَمَا وَصَفَ لَهُمْ.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ ... »
إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا أَصَحُّ وَأَوْضَحُ مِمَّا رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَنْ بَيْتِهِ أَوْ كَانَ مَنْ بَيت أم هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَوْ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ.
وَالتَّحْقِيقُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ آخَرُ، وَهُوَ الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَة. فللنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute