للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ [الشُّعَرَاء: ٢٠٩] وَقَالَ: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [يُونُس: ٤٧] .

عَلَى أَنَّ مَعْنَى (حَتَّى) يُؤْذِنُ بِأَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ مُتَّصِلَةٌ بِالْعَذَابِ شَأْنَ الْغَايَةِ، وَهَذَا اتِّصَالٌ عُرْفِيٌّ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْبَعْثَةُ مِنْ مُدَّةٍ لِلتَّبْلِيغِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ وَالْإِمْهَالِ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَلِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ هُنَا عَذَابَ الدُّنْيَا وَكَمَا يَقْتَضِيهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْآيَةِ بَعْدَهَا.

عَلَى أَنَّنَا إِذَا اعْتَبَرْنَا التَّوَسُّعَ فِي الْغَايَةِ صَحَّ حَمْلُ التَّعْذِيبِ عَلَى مَا يَعُمُّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَوُقُوعُ فِعْلِ مُعَذِّبِينَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَبِعْثَةُ الرُّسُلِ لِتَفْصِيلِ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنَ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَعْمَالِ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُرْشِدَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ لَهُمْ. وَهِيَ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى انْتِفَاءِ مُؤَاخَذَةِ أَحَدٍ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ مِنَ الله إِلَى قوم، فَهِيَ حُجَّةٌ لِلْأَشْعَرِيِّ نَاهِضَةٌ عَلَى الْمَاتُرِيدِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى إِيصَالِ الْعَقْلِ إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ اللَّهِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ. فَوُجُودُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ عِنْدَهُمْ وَاجِبَانِ بِالْعَقْلِ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعَطَّلَ وَلَا عُذْرَ لَهُ بَعْدَ بَعْثَةِ رَسُولٍ.

وَتَأْوِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُرَادَ بِالرَّسُولِ الْعَقْلُ تَطَوُّحٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ وَإِغْمَاضٌ عَنْ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ نَبْعَثَ إِذْ لَا يُقَالُ بَعَثَ عَقْلًا بِمَعْنَى جَعَلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فِي سُورَة النِّسَاء [١٦٥] .