للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَيْفَ تَرَانِي قَالِيًا مِجَنِّي ... قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زيادا عني

فكون قَوْلُهُ: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ تَمْهِيدًا لِلْمِنَّةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْأَمْرَيْنِ النَّجَاةِ وَالْهَلَاكِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَا حَدَثَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ مِنْ لِحَاقِ جُنْدِ فِرْعَوْنَ بِهِمْ لِمَنْعِهِمْ مِنْ مُغَادَرَةِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا لَيْلًا إِمَّا بِإِذْنٍ مِنْ فِرْعَوْنَ كَمَا تَقُولُ التَّوْرَاةُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَإِمَّا خُفْيَةً كَمَا عَبَّرَتْ عَنْهُ التَّوْرَاةُ بِالْهُرُوبِ، حَصَلَ لِفِرْعَوْنَ نَدَمٌ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ أَوْ أَغْرَاهُ بَعْضُ أَعْوَانِهِ بِصَدِّهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ لِمَا فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ إِضَاعَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانُوا يُسَخَّرُونَ فِيهَا أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا رَآهُمْ سَلَكُوا غَيْرَ الطَّرِيقِ الْمَأْلُوفِ لِاجْتِيَازِ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ ظَنَّهُمْ يَرُومُونَ الِانْتِشَارَ فِي بَعْضِ جِهَاتِ مَمْلَكَتِهِ الْمِصْرِيَّةِ فَخَشِيَ شَرَّهُمْ إِنْ هُمْ بَعُدُوا عَنْ مَرْكَزِ مُلْكِهِ وَمُجْتَمَعِ قُوَّتِهِ وَجُنْدِهِ.

إِنَّ بني إِسْرَائِيل مَا خَرَجُوا مِنْ جِهَاتِ حَاضِرَةِ مِصْرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَدِينَةُ مَنْفِيسَ (١) لَمْ

يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الْمَأْلُوفَ لِبِلَادِ الشَّامِ إِذْ تُرِكُوا أَنْ يسلكوا طَرِيق شاطىء بَحْرِ الرُّومِ (الْمُتَوَسِّطِ) فَيَدْخُلُوا بَرِّيَّةَ سِينَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَرِقُوا الْبَحْرَ وَلَا يَقْطَعُوا أَكْثَرَ من اثْنَتَيْ عرة مَرْحَلَةً أَعْنِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِيلًا وَسَلَكُوا طَرِيقًا جَنُوبِيَّةً شَرْقِيَّةً حَوْلَ أَعْلَى الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ لِئَلَّا يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الْمَأْلُوفَةَ الْآهِلَةَ بِقَوَافِلِ الْمِصْرِيِّينَ وَجُيُوشِ الْفَرَاعِنَةِ فَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ فِي سَيْرِهِمْ أَوْ يُلْحِقُ بِهِمْ فِرْعَوْنُ مَنْ يَرُدُّهُمْ لِأَنَّ مُوسَى عَلِمَ بِوَحْيٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: ٥٢] إِنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنِ الْمُضِيِّ فِي سَيْرِهِمْ فَلِذَلِكَ سَلَكَ بِهِمْ- بِالْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ- طَرِيقًا غَيْرَ مَطْرُوقَةٍ فَكَانُوا مُضْطَرِّينَ لِلْوُقُوفِ أَمَامَ الْبَحْرِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ «فَمُ الْحَيْرُوثِ» فَهُنَالِكَ ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ إِذْ فَلَقَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَحْرَ بِبَاهِرِ قُدْرَتِهِ فَأَمَرَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَلَقَ وَصَارَ فِيهِ طَرِيقٌ يَبَسٌ مَرَّتْ عَلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَكَانَ جُنْدُ فِرْعَوْنَ قَدْ لَحِقَ بِهِمْ وَرَامَ اقْتِحَامَ الْبَحْرِ وَرَاءَهُمْ فَانْطَبَقَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا.


(١) لِأَن مقرّ الإسرائيليين كَانَ بِمصْر السُّفْلى كَمَا تقدم وَكَانَت قاعدتها منفيس وَهِي يَوْم دُخُول بني