للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَمْثِيلٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٨٨] .

وَالتَّعْرِيفُ فِي الرَّحْمَةِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ رَحْمَتِكَ إِيَّاهُمَا. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ الذُّلِّ النَّاشِئِ عَنِ الرَّحْمَةِ لَا عَنِ الْخَوْفِ أَوْ عَنِ الْمُدَاهَنَةِ. وَالْمَقْصُودُ اعْتِيَادُ النَّفْسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالرَّحْمَةِ بِاسْتِحْضَارِ وُجُوبِ مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمَا بِهَا حَتَّى يَصِيرَ لَهُ خُلُقًا، كَمَا قِيلَ:

إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ

وَهَذِهِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَلَا يُطَاعَانِ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا كُفْرٍ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ.

وَمُقْتَضَى الْآيَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْبِرِّ وَإِرْضَاؤُهُمَا مَعًا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَوْرِدَهَا لِفِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْوَلَدِ نَحْوَ وَالِدَيْهِ وَذَلِكَ قَابِلٌ لِلتَّسْوِيَةِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَبَوَانِ وَيَتَشَاحَّانِ فِي طَلَبِ فِعْلِ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَ رَغْبَتَيْهِمَا بِأَنْ يَأْمُرَهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ بِضِدِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْآخَرُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى أَحْوَالٍ تُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ بِأَنْ يَسْعَى إِلَى الْعَمَلِ بِطَلَبَيْهِمَا إِنِ اسْتَطَاعَ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ.

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ»

. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْأُمِّ لِأَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لِأَبَوَيْهِ.

وَلِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ:

أَحَدُهَا: تَرْجِيحُ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْمُحَاسِبِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ، فَقَدْ حَكَى الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ ٢٣ عَنْ