وَمِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ وَإِعْجَازِهِ الْخَفِيِّ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ (سُلْطَانٍ) هُنَا الظَّاهِرِ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيِ السُّلْطَةِ وَالْحَقِّ وَالصَّالِحِ لِإِرَادَةِ إِقَامَةِ السُّلْطَانِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي يَأْخُذُ الْحُقُوقَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ إِلَى الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ حِينَ تَنْتَظِمُ جَامِعَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِلْمُسْلِمِينَ دَوْلَةً دَائِمَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ سُلْطَانٌ.
وَهَذَا الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِالْقَتْلِ الْحَادِثِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ وَهُوَ قَتْلُ الْعُدْوَانِ، فَأَمَّا الْقَتْلُ الَّذِي هُوَ لِحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَالذَّبِّ عَنِ الْحَوْزَةِ، وَهُوَ الْجِهَادُ، فَلَهُ أَحْكَامٌ أُخْرَى. وَبِهَذَا تَعْلَمُ التَّوْجِيهَ لِلْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّمَائِرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْحُكْمِ بِحَيْثُ جُعِلَ مُسْتَقِلًّا، فَعُطِفَ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ مَفْصُولَةً، إِمَّا اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ حُكْمِ حَالَةٍ تَكْثُرُ، وَإِمَّا بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ جُمْلَةِ إِلَّا بِالْحَقِّ.
وَ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ مُرَادٌ بِهَا الْعُمُومُ، أَيْ وَكُلُّ الَّذِي يُقْتَلُ مَظْلُومًا. وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِي جُمْلَةِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ إِذَا قُصِدَ بِهِ الْعُمُومُ وَالرَّبْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً هُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَدِّمَةٌ لِلْخَبَرِ بِتَعْجِيلِ مَا يُطَمْئِنُ نَفْسَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ إِلَخْبَرِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً تَمْهِيدًا لِقَبُولِ النَّهْيِ عَنِ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ جعل لَهُ سُلْطَان فَقَدْ صَارَ الْحُكْمُ بِيَدِهِ وَكَفَاهُ ذَلِكَ شِفَاءً لِغَلِيلِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute