للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لَمَّا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ قَبْلَ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَعَاني الْقُرْآن تبع ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ فَهْمِ مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ، فَإِذَا سَمِعُوا مَا يُبْطِلُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ فَهِمُوا ذَلِكَ فَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا، أَيْ زَادَهُمْ ذَلِكَ الْفَهْمُ ضَلَالًا كَمَا حَرَمَهُمْ عَدَمُ الْفَهْمِ هَدْيًا، فَحَالُهُمْ مُتَنَاقِضٌ. فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَحِقُّ أَنْ يُسْمَعَ، وَيَسْمَعُونَ مَا يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْمَعُوهُ لِيَزْدَادُوا بِهِ كُفْرًا.

وَمَعْنَى «ذَكَرْتَ رَبَّكَ وَحْدَهُ» ظَاهِرُهُ أَنَّكَ ذَكَرْتَهُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذِكْرِهِ وَلَمْ تَذْكُرْ آلِهَتَهُمْ لِأَنَّ

وَحْدَهُ حَالٌ مِنْ رَبَّكَ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ ذَكَرْتَ. وَمَعْنَى الْحَالِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْخَارِجِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ كَانَ ذِكْرُكَ لَهُ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ فِي وُجُودِ الذِّكْرِ، فَيَكُونُ تَوَلِّي الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَئِذٍ مِنْ أَجْلِ الْغَضَبِ مِنَ السُّكُوتِ عَنْ آلِهَتِهِمْ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ إِلَّا لِعَدَمِ الِاعْتِرَافِ بِهَا. وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمَا كَانَ لِتَوَلِّيهِمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ سَبَبٌ، لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَذْكُرُونَ الْعُزَّى أَوِ اللَّاتَ مَثَلًا وَلَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهَا من الْأَصْنَام لَا يَظُنُّ أَنَّ الذَّاكِرَ لِلْعُزَّى مُنْكِرٌ مَنَاةَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: ٤٥] .

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ بِتَوْحِيدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِنُفُورِهِمْ وَتَوَلِّيهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ انْفِرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَتَكُونُ دَلَالَةُ وَحْدَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ وَفِعْلِ ذَكَرْتَ.

وَلَعَلَّ الْحَالَ الْجَائِيَةَ مِنْ مَعْمُولِ أَفْعَالِ الْقَوْلِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِهِمَا تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْقَوْلِ وَاللِّسَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَى «ذَكَرْتَ رَبَّكَ وَحْدَهُ» أَنَّهُ مُوَحَّدٌ فِي ذِكْرِكَ وَكَلَامِكَ، أَيْ ذَكَرْتَهُ مَوْصُوفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ.