وَجُمْلَةُ قالَ أَأَسْجُدُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ إِبْلِيسَ مِنْ حُكْمِ السُّجُودِ لَمْ يُفِدْ أَكْثَرَ مِنْ عَدَمِ السُّجُودِ. وَهَذَا يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِ التَّخَلُّفِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ مِنْهُ، فَيُجَابُ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ حِينَ الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ السُّجُودِ أَنَّهُ عِصْيَانٌ لأمر الله ناشىء عَنْ جَهْلِهِ وَغُرُورِهِ.
وَقَوْلُهُ: طِيناً حَالٌ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، أَيِ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ طِينًا، فَيُفِيدُ مَعْنَى أَنَّكَ خَلَقْتَهُ مِنَ الطِّينِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ جِنْسَ الطِّينِ حَالًا مِنْهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَلَبَةِ الْعُنْصُرِ التُّرَابِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ فِي تَحْقِيرِهِ فِي نَظَرِ إِبْلِيسَ.
وَجُمْلَةُ قالَ أَرَأَيْتَكَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً بِاعْتِبَارِ مَا
تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنِ احْتِقَارِ آدَمَ وَتَغْلِيطِ الْإِرَادَةِ مِنْ تَفْضِيلِهِ. فَقَدْ أُعِيدَ إِنْكَارُ التَّفْضِيلِ بِقَوْلِهِ:
أَرَأَيْتَكَ الْمُفِيدِ الْإِنْكَارَ. وَعَلَّلَ الْإِنْكَارَ بِإِضْمَارِ الْمَكْرِ لِذُرِّيَّتِهِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ أَرَأَيْتَكَ عَنْ جُمْلَةِ قالَ أَأَسْجُدُ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [طه: ١٢٠] .
وأَ رَأَيْتَكَ تَرْكِيبٌ يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ الَّذِي يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ. وَمَعْنَاهُ:
أَخْبِرْنِي عَمَّا رَأَيْتُ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ، وَ (رَأَى) الَّتِي بِمَعْنَى عَلِمَ وَتَاءِ الْمُخَاطَبِ الْمُفْرَدِ الْمَرْفُوعِ، ثُمَّ يُزَادُ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ كَافُ خِطَابٍ تُشْبِهُ ضَمِيرَ الْخِطَابِ الْمَنْصُوبِ بِحَسَبِ الْمُخَاطَبِ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا. يُقَال: أرأيتك وأ رأيتكم كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٠] . وَهَذِهِ الْكَافُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْخِطَابِ الَّذِي تُفِيدُهُ تَاءُ الْخِطَابِ الَّتِي فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَهُوَ يُشْبِهُ التَّوْكِيدَ اللَّفْظِيَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَافُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَالتَّرْكِيبُ: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ.
وَهَذَا أَقْرَبُ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَيُسَوِّغُهُ أَنَّ أَفْعَالَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ قَدْ تَنْصِبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ مَا هُوَ ضَمِيرُ فَاعِلِهَا نَحْوَ قَوْلِ طَرَفَةَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute