للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأُنْزِلَتْ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي الْآيَة [الْكَهْف: ١٠٩] .

وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ أَحْبَارُ يَهُودَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّكَ تَقُولُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، أَفَعَنَيْتَنَا أَمْ قَوْمَكَ؟ قَالَ:

كُلًّا قَدْ عَنَيْتُ. قَالُوا: فَإِنَّكَ تَتْلُو أَنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:

هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَقَدْ آتَاكُمْ مَا إِنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لُقْمَان: ٢٧] .

هَذَا، وَالَّذِينَ حَاوَلُوا تَقْرِيبَ شَرْحِ مَاهِيَّةِ الرُّوحِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَشَرِّعِينَ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ الشَّارِحِ لَمْ يَأْتُوا إِلَّا بِرُسُومٍ نَاقِصَةٍ مَأْخُوذَةٌ فِيهَا الْأَجْنَاسُ الْبَعِيدَةُ وَالْخَوَاصُّ التَّقْرِيبِيَّةُ غَيْرُ الْمُنْضَبِطَةِ وَتَحْكِيمُ الْآثَارِ الَّتِي بَعْضُهَا حَقِيقِيٌّ وَبَعْضُهَا خَيَالِيٌّ، وَكُلُّهَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُرْبِ مِنْ شَرْحِ خَاصَّاتِهِ وَأَمَارَاتِهِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ تَصَوُّرَاتِهِمْ لِمَاهِيَّتِهِ الْمَبْنِيَّاتِ عَلَى تَفَاوُتِ قُوَى مَدَارِكِهِمْ وَكُلُّهَا لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ رُسُومًا خَيَالِيَّةً وَشِعْرِيَّةً مُعَبِّرَةً عَنْ آثَارِ الرُّوحِ فِي الْإِنْسَان.

وَإِذا قَدْ جَرَى ذِكْرُ الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصُرِفَ السَّائِلُونَ عَنْ مُرَادِهِمْ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ اقْتَضَاهُ حَالُهُمْ وَحَالُ زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ، فَمَا عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَرَّضَ لِمُحَاوَلَةِ تَعَرُّفِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ فَقَدْ تَهَيَّأَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ وَسَائِلِ الْمَعْرِفَةِ مَا تَغَيَّرَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي اقْتَضَتْ صَرْفَ السَّائِلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ التَّغَيُّرِ، وَقَدْ تَتَوَفَّرُ تَغَيُّرَاتٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَزِيدُ أَهْلَ الْعِلْمِ اسْتِعْدَادًا لِتَجَلِّي بَعْضِ مَاهِيَّةِ الرُّوحِ، فَلِذَلِكَ لَا نُجَارِي الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ حَقِيقَةَ الرُّوحِ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْ بَيَانِهَا لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسَكَ عَنْهَا فَلَا يَنْبَغِي الْخَوْضُ فِي شَأْنِ الرُّوحِ بِأَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهَا مَوْجُودَةً. فَقَدْ رَأَى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ