ذِكْرُ الْقُرْآنِ أَهَمَّ بِالْأَصَالَةِ إِلَّا أَنَّ الِاعْتِبَارَاتِ الطَّارِئَةَ تُقَدَّمُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عَلَى الاعتبارات الْأَصْلِيَّة، أَن الِاعْتِبَارَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لِتَقَرُّرِهَا فِي النُّفُوسِ تَصِيرُ مُتَعَارَفَةً فَتَكُونُ الِاعْتِبَارَاتُ الطَّارِئَةُ أَعَزَّ مَنَالًا. وَمِنْ هَذَا بَابُ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَالْأَظْهَرُ كَوْنُ التَّعْرِيفِ فِي النَّاسِ لِلْعُمُومِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً.
وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقَ التَّصْرِيفِ بِقَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بِخِلَافِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ أَشَدُّ تَعْجِيزًا لِمَنْ يَرُومُ مُعَارَضَتَهُ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، إِذْ قَدْ يَقْدِرُ بَلِيغٌ مِنَ الْبُلَغَاءِ عَلَى غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى غَرَضٍ آخَرَ، فَعَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ كَثْرَةِ أَغْرَاضِهِ عَجْزٌ بَيِّنٌ مِنْ جِهَتَيْنِ، لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَغْرَاضِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣] فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَإِنَّ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَتَنْوِينُ (مَثَلٍ) لِلتَّعْظِيمِ
وَالتَّشْرِيفِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ شَرِيفٍ. وَالْمُرَادُ: شَرَفُهُ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ التَّمْثِيلِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ. لِلتَّبْعِيضِ، وَ (كُلِّ) تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَبْعَاضٍ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَثَلِ.
وَحذف مفعول فَأَبى لِلْقَرِينَةِ، أَيْ أَبَى الْعَمَلَ بِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُفُوراً تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أَيْ تَأْكِيدٌ فِي صُورَةِ النَّقْصِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِطْمَاعِ بِأَنْ إِبَايَتَهُمْ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي الْمُسْتَثْنَى مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إِذِ الْكُفُورُ أَخَصُّ مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي حُذِفَ لِلْقَرِينَةِ. وَهُوَ اسْتثِْنَاء مفرغ لِمَا فِي فعل فَأَبى مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ، مِثْلَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء:
٩٣] .
وَالْكُفُورُ- بِضَم الْكَاف- المجحود، أَيْ جَحَدُوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ هدى وعاندوا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute