للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَذكر النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَقْرِيبٌ لِمَنْزِلَتِهِ وَتَنْوِيهٌ بِهِ بِمَا فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ مِنْ رِفْعَةِ قَدْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١] .

وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. فَكُلُّ مِقْدَارٍ مُنَزَّلٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْكِتابَ. فَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا مَا وَقَعَ إِنْزَالُهُ مِنْ يَوْمِ الْبَعْثَةِ فِي غَارِ حِرَاءٍ إِلَى يَوْمِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَيُلْحَقُ بِهِ مَا يَنْزِلُ

بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُزَادُ بِهِ مِقْدَارُهُ.

وَجُمْلَةُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْكِتابَ وَبَيْنَ الْحَالِ مِنْهُ وَهُوَ قَيِّماً. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَيَجُوزُ كَوْنُ الْجُمْلَةِ حَالًا وَالْوَاوِ حَالِيَّةً.

وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَبِفَتْحِ الْوَاوِ- حَقِيقَتُهُ: انْحِرَافُ جِسْمٍ مَا عَنِ الشَّكْلِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهُوَ ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الِانْحِرَافِ عَنِ الصَّوَابِ وَالْمَعَانِي الْمَقْبُولَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ.

وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَكْسُورَ الْعَيْنِ وَمَفْتُوحَهَا سَوَاءٌ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ. وَقِيلَ: الْمَكْسُورُ الْعَيْنِ يَخْتَصُّ بِالْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي «الْكَشَّافِ» . وَيُبْطِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ نَسْفَ الْجِبَالِ فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: ١٠٦- ١٠٧] حَيْثُ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ-. وَعَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: أَنَّ الْمَكْسُورَ أَعَمُّ يَجِيءُ فِي الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَأَنَّ الْمَفْتُوحَ خَاصٌّ بِالْمَجَازِيِّ.

وَالْمُرَادُ بِالْعِوَجِ هُنَا عِوَجُ مَدْلُولَاتِ كَلَامِهِ بِمُخَالَفَتِهَا لِلصَّوَابِ وَتَنَاقُضِهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْحِكْمَةِ وَإِصَابَةِ الْمُرَادِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ أَوِ الْحَالِيَّةِ إِبْطَالُ مَا يَرْمِيهِ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْلِهِمُ: «افْتَرَاهُ، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقَوْلُ كَاهِنٍ» ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ لَا تَخْلُو مِنْ عِوَجٍ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء:

٨٢] .