بَعْضُهَا بِنَظْمِ الْآيَةِ (١) لَا يَلْتَئِمُ بَعْضُهُ الْآخَرُ، وَرُبَّمَا خَالَفَ جَمِيعُهَا مَا وَقع فِي أَيَّام أُخَرَ.
وَالَّذِي عِنْدِي مِنَ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ هَاتِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى قِصَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَضَمَّنَتْهَا كُتُبُهُمْ وَهِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَوَّحَتْ بِهِمُ الرِّحْلَةُ إِلَى بَرِّيَّةِ فَارَانَ نَزَلُوا بِمَدِينَةِ قَادِشٍ فَأَصْبَحُوا عَلَى حُدُودِ أَرْضِ كَنْعَانَ الَّتِي هِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ فَأَرْسَلَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا لِيَتَجَسَّسُوا أَرْضَ كَنْعَانَ مِنْ كل سبط رجل وَفِيهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَالَبُ بْنُ بَفْنَةَ فَصَعِدُوا وَأَتَوْا إِلَى مَدِينَةِ حَبْرُونَ فَوَجَدُوا الْأَرْضَ ذَاتَ خَيْرَاتٍ وَقَطَعُوا مِنْ عِنَبِهَا وَرُمَّانِهَا وَتِينِهَا وَرَجَعُوا لِقَوْمِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَخْبَرُوا مُوسَى وَهَارُونَ وَجَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرَوْهُمْ ثَمَرَ الْأَرْضِ وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهَا حَقًّا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا غَيْرَ أَنَّ أَهْلَهَا ذَوُو عِزَّةٍ وَمُدُنَهَا حَصِينَةٌ جِدًّا فَأَمَرَ مُوسَى كَالِبًا فَأَنْصَتَ إِسْرَائِيلُ إِلَى مُوسَى وَقَالَ إِنَّنَا نَصْعَدُ وَنَمْتَلِكُهَا وَكَذَلِكَ يُوشَعُ أَمَّا الْعَشَرَةُ الْآخَرُونَ فَأَشَاعُوا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَذَمَّةَ الْأَرْضِ وَأَنَّهَا تَأْكُلُ سُكَّانَهَا وَأَنَّ سُكَّانَهَا جَبَابِرَةٌ فَخَافَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ وَجَبُنُوا عَنِ الْقِتَالِ فَقَامَ فِيهِمْ يُوشَعُ وَكَالِبٌ قَائِلِينَ لَا تَخَافُوا مِنَ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُمْ لُقْمَةٌ لَنَا وَاللَّهُ مَعَنَا، فَلَمْ يُصْغِ الْقَوْمُ لَهُمْ وَأَوْحَى اللَّهُ لِمُوسَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسَاءُوا الظَّنَّ بِرَبِّهِمْ وَأَنَّهُ مُهْلِكُهُمْ فَاسْتَشْفَعَ لَهُمْ مُوسَى فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ حَرَمَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فَلَا يَدْخُلُ لَهَا أَحَدٌ مِنَ
الْحَاضِرِينَ يَوْمئِذٍ إِلَّا يوشعا وكالبا وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى الْجَوَاسِيسِ الْعَشَرَةِ الْمُثَبِّطِينَ وَبَاءً أَهْلَكَهُمْ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ تَمَامَ الِانْطِبَاقِ لَا سِيَّمَا إِذَا ضَمَّتْ لَهَا آيَةَ سُورَةِ [الْمَائِدَةِ: ٢١، ٢٥] يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ الْفاسِقِينَ فَقَوْلُهُ: ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا «حَبْرُونَ» الَّتِي كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْهُمْ وَالَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا جَوَاسِيسُهُمْ وَأَتَوْا بِثِمَارِهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ مِنَ الْقَرْيَةِ الْجِهَةَ كُلَّهَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَبَّةَ فَإِنَّ الْقَرْيَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْمَزْرَعَةِ لَكِنَّ هَذَا يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ: وَادْخُلُوا الْبابَ وَإِن كَانَ الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَكَيْفَمَا كَانَ يَنْتَظِمُ
(١) ذَلِك أَن الْآيَة لم تعين اسْم الْقرْيَة وَلَا عَامل حطة وَلَا مَفْعُوله، وأجملت فِي الَّذين بدلُوا وَفِي القَوْل مَا هُوَ، وَفِي الَّذِي قيل لَهُم، وَالْقَصْد من ذَلِك تجنب ثقل إِعَادَة الْأَمر الْمَعْلُوم فَإِن بني إِسْرَائِيل المخاطبين كَانُوا يعلمُونَ ذَلِك وَالْمُسْلِمين بِالْمَدِينَةِ كَانُوا يتلقونه مفصلا من النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمن مُسْلِمِي أهل الْكتاب مثل عبد الله بن سَلام.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute