أَوْ تَنْزِيلًا لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمُنْذَرُ بِهِ وَهُوَ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ تَهْوِيلًا لَهُ وَلِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ.
وَالْبَأْسُ: الشِّدَّةُ فِي الْأَلَمِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْقُوَّةِ فِي الْحَرْبِ لِأَنَّهَا تُؤْلِمُ الْعَدُوَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧] .
وَالْمُرَادُ هُنَا: شِدَّةُ الْحَالِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُطْلِقَ عَلَى اسْمِ الْبَأْسِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ الطَّبَرِيُّ. وَهَذَا إِيمَاءٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَا سَيَلْقَوْنَهُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بَأْسٌ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِهِ وَبِأَمْرِهِ عِبَادَهُ أَنْ يَفْعَلُوهُ، فَاسْتِعْمَالُ (لَدُنْ) هُنَا فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ.
وَلَيْسَ فِي جَعْلِ الْإِنْذَارِ بِبَأْسِ الدُّنْيَا عِلَّةً لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ مَا يَقْتَضِي اقْتِصَارَ عِلَلِ إِنْزَالِهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ قَدْ تَكُونُ لَهُ عِلَلٌ كَثِيرَةٌ يُذْكَرُ بَعْضُهَا وَيُتْرَكُ بَعْضٌ.
وَإِنَّمَا آثَرْتُ الْحَمْلَ على جعل الْيَأْس الشَّدِيدِ بَأْس الدُّنْيَا للنقصي مِمَّا يَرِدُ عَلَى إِعَادَةِ فِعْلِ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: ٤] كَمَا سَيَأْتِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَأْسِ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْهُ
مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَبِهَذَا الْوَجْهِ فَسَّرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَأْسِ الشَّدِيدِ مَا يَشْمَلُ بَأْسَ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَبَأْسَ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَيَكُونَ اسْتِعْمَالُ مِنْ لَدُنْهُ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، أَمَّا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا فَلِأَنَّ بَعْضَهُ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَهُمَا مِنْ أَفْعَالِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِمَا فَهُمَا مِنْ لَدُنْهُ.
وَحذف مفعول لِيُنْذِرَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ لِظُهُورِ أَنَّهُ يُنْذِرُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْكِتَابِ وَلَا بِالْمُنْزَلِ عَلَيْهِ، وَلِدَلَالَةِ مُقَابَلِهِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute