الْمُشَارَكَةِ فِي الْخَلْقِ وَالْإِلَهِيَّةِ بِالْفَحْوَى أَيْ، بِالْأَوْلَى، فَإِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ كَانَ قَبْلَ وُجُودِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهِمْ بِسَبْقِ الْعَدَمِ عَلَى وُجُودِهِمْ. وَكُلُّ مَا جَازَ عَلَيْهِ الْعَدَمُ اسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْقِدَمُ، وَالْقِدَمُ مِنْ لَوَازِمَ الْإِلَهِيَّةِ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: أَشْهَدْتُهُمْ وَقَوْلِهِ: أَنْفُسِهِمْ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ، أَيْ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.
وَمَعْنَى أَنْفُسِهِمْ، أَنْفُسُ بَعْضِهِمْ بِقَرِينَةِ اسْتِحَالَةِ مُشَاهَدَةِ الْمَخْلُوقِ خَلْقَ نَفْسِهِ، فَإِطْلَاقُ الْأَنْفُسِ هَنَا نَظِيرُ إِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١] وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ [الْبَقَرَة: ٨٤] ، أَيْ أَنْفُسَ بَعْضِكُمْ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ وَيَتَقَوَّمُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ لَهُمَا سُكَّانَهُمَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصّلت:
٩- ١٢] . وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَرْضِ جِنًّا مُتَصَرِّفِينَ فَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا مَخُوفًا قَالُوا: أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي، لِيَكُونُوا فِي أَمْنٍ مِنْ ضُرِّهِ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مَا أَشْهَدْنَاهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَقَرَأَ وَما كُنْتُ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْخطاب للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْي.
وَالْمرَاد ب الْمُضِلِّينَ الشَّيَاطِينُ، لِأَنَّهُمْ أَضَلُّوا النَّاسَ بِإِلْقَاءِ خَوَاطِرِ الضَّلَالَةِ وَالْفَسَادِ فِي النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ١٢١] .
وَجُمْلَةُ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute