فَأَمَّا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدْ تَأَوَّلُوا الْآيَةَ عَلَى خِلَافِ هَذَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَعَلُوا الْمُرَادَ بِالنَّاسِ عَيْنَ الْمُرَادِ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الْكَهْف: ٥٤] ، أَيْ مَا مَنَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَجَعَلُوا الْمُرَادَ بِالْهُدَى
عَيْنَ الْمُرَادِ بِالْقُرْآنِ، وَحَمَلُوا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ عَلَى مَعْنَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ، أَيِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ الْمَاضِينَ، أَيْ فَإِضَافَةُ سُنَّةُ إِلَى الْأَوَّلِينَ مِثْلُ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهِيَ عَادَةُ اللَّهِ فِيهِمْ، أَيْ يعذبهم عَذَاب الاستيصال.
وَجَعَلُوا إِسْنَادَ الْمَنْعِ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيِ انْتِظَارُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ، أَيْ وَيَكُونُ الْكَلَامُ تَهَكُّمًا وَتَعْرِيضًا بِالتَّهْدِيدِ بِحُلُولِ الْعَذَابِ بِالْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا عِنْدَ نزُول عَذَاب الاستيصال، أَيْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا [يُونُس: ١٠٢] .
وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا قَسِيمًا لِقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، فَحَرْفُ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ، وَفِعْلُ يَأْتِيَهُمُ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ بالاستيصال الْمُفَاجِئِ أَوْ يَأْتِيَهِمُ الْعَذَابُ مُوَاجِهًا لَهُمْ. وَجَعَلُوا قُبُلًا حَالًا مِنَ الْعَذابُ، أَيْ مُقَابِلًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ عَذَابُ مُقَابَلَةٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ، أَيْ عَذَابُ الْجَلَّادِ بِالسُّيُوفِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ مَنْ ذَاقَ عَذَابَ السَّيْفِ فِي غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ فَهُوَ يَرَى عَذَابَ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي سَلَكُوهُ يَنْسَلِخُ مِنَ الْآيَةِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ، وَتُقْصَرُ عَلَى مَعْنَى التَّهْدِيدِ.
وَالْإِتْيَانُ: مَجَازٌ فِي الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِوُجُودِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ الَّتِي تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ اسْتِقْبَالٌ نِسْبِيٌّ فَلِكُلِّ أُمَّةٍ اسْتِقْبَالُ سُنَّةِ مَنْ قَبْلَهَا.
وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
وَإِسْنَادُ مَنْعِهِمُ الْإِيمَانَ إِلَى إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ أَوْ إِتْيَانِ الْعَذَابِ إِسْنَادُ مَجَازٍ عَقْلِيٍّ.
وَالْمُرَادُ: مَا مَنَعَهُمْ إِلَّا سَبَبُ إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ لَهُمْ أَوْ إِتْيَانِ الْعَذَابِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute