وَإِنَّمَا رَامَ مُوسَى أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْخَضِرَ لِأَنَّ الِازْدِيَادَ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ هُوَ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَعْلِيمًا لِنَبِيِّهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:
١١٤] . وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي أُوتِيهِ الْخَضِرُ هُوَ عِلْمُ سِيَاسَةٍ خَاصَّةٍ غَيْرِ عَامَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنِينَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ بِحَسَبِ مَا تُهَيِّئُهُ الْحَوَادِثُ وَالْأَكْوَانُ لَا بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ. فَلَعَلَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ لِنَفْعِ مُعَيَّنِينَ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا جعل مُحَمَّدًا صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم رَحْمَةً عَامَّةً لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَمِنْ هُنَا فَارَقَ سِيَاسَةَ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ. وَنَظِيرُهُ معرفَة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم أَحْوَالَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَتَحَقُّقُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدْعُوهُمْ دَوْمًا إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَحَقُّقُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ بِإِخْبَار النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم إِيَّاهُ بِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُشْداً- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُون الشين-. وقرأه أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ- مِثْلَ اللَّفْظَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَكَّدَ جُمْلَةَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً بِحَرْفِ (إِنَّ) وَبِحَرْفِ (لَنْ) تَحْقِيقًا
لِمَضْمُونِهَا مِنْ تَوَقُّعِ ضِيقِ ذَرْعِ مُوسَى عَنْ قَبُولِ مَا يُبْدِيهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ تَصْدُرُ مِنْهُ أَفْعَالٌ ظَاهِرُهَا الْمُنْكَرُ وَبَاطِنُهَا الْمَعْرُوفُ. وَلَمَّا كَانَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أقامهم الله لإجرء الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُنْكِرُ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِاخْتِلَافِ الْمَشْرَبَيْنِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُقِرُّونَ الْمُنْكَرَ.
وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْهُ لِمُوسَى وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْهُ حَتَّى يُقْدِمَ عَلَى مُتَابَعَتِهِ إِنْ شَاءَ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعَلَى غَيْرِ اغْتِرَارٍ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِخْبَارَ. فَمَنَاطُ التَّأْكِيدَاتِ فِي جُمْلَةِ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً إِنَّمَا هُوَ تَحْقِيقُ خُطُورَةِ أَعْمَالِهِ وَغَرَابَتِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ بِحَيْثُ لَا تُتَحَمَّلُ، وَلَوْ كَانَ خَبَرًا عَلَى أَصْلِهِ لَمْ يَقْبَلْ فِيهِ الْمُرَاجَعَةَ وَلَمْ يُجِبْهُ مُوسَى بِقَوْلِهِ:
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute