وَهُنَا لَمْ يَعْتَذِرْ مُوسَى بِالنِّسْيَانِ: إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَسِيَ، وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ بِدُونِ مُوجِبٍ، عَلَى وَاجِبِ الْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ نَسِيَ وَأَعَرَضَ عَنِ الِاعْتِذَارِ بِالنِّسْيَانِ لِسَمَاجَةِ تَكَرُّرِ الِاعْتِذَارِ بِهِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ عَدَلَ إِلَى الْمُبَادَرَةِ بِاشْتِرَاطِ مَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ إِنْ عَادَ لِلسُّؤَالِ الَّذِي لَا يَبْتَغِيهِ صَاحِبُهُ فَقَدْ جَعَلَ لَهُ أَنْ لَا يُصَاحِبَهُ بَعْدَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، وَالثَّانِيَةُ شَرْطًا»
، فَاحْتَمَلَ كَلَامُ النَّبِيءِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَأَنْصَفَ مُوسَى إِذْ جَعَلَ لِصَاحِبِهِ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ مُصَاحَبَتِهِ فِي الثَّالِثَةِ تَجَنُّبًا لِإِحْرَاجِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَدُنِّي- بِتَشْدِيدِ النُّونِ- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم يَعْنِي أَنَّ فِيهَا سَنَدًا خَاصًّا مَرْوِيًّا فِيهِ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنْ لَدُنِّي- بِتَخْفِيفِ النُّونِ- عَلَى أَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ نُونُ الْوِقَايَةِ تَخْفِيفًا، لِأَنَّ (لَدُنْ) أَثْقَلُ مِنْ (عَنْ) (وَمِنْ) فَكَانَ التَّخْفِيفُ فِيهَا مَقْبُولًا دُونَهُمَا.
وَمَعْنَى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قَدْ وَصَلْتَ مِنْ جِهَتِي إِلَى الْعُذْرِ. فَاسْتُعِيرَ بَلَغْتَ لِمَعْنًى (تَحَتَّمَ وَتَعَيَّنَ) لِوُجُودِ أَسْبَابِهِ بِتَشْبِيهِ الْعُذْرِ فِي قَطْعِ الصُّحْبَةِ بِمَكَانٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّائِرُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَأَثْبَتَ لَهُ الْبُلُوغَ تَخْيِيلًا، أَوِ اسْتَعَارَ الْبُلُوغَ لِتَعَيُّنِ حُصُولِ الشَّيْءِ بعد المماطلة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute