ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَثَارَهُ مَا شَنَّعَ بِهِ حَالُهُمْ مِنْ لُزُومِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ لَهُمْ وَالْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ. وَأَفْرَدَ اسْمَ الْإِشَارَةِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ وَهُوَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْإِفْرَادِ مِنْ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِ رُؤْبَةَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِرُؤْبَةَ: إِنْ أَرَدْتَ الْخُطُوطَ فَقُلْ كَأَنَّهَا وَإِنْ أَرَدْتَ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ فَقُلْ كَأَنَّهُمَا فَقَالَ رُؤْبَةُ: «أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ وَيْلَكَ» وَإِنَّمَا كَانَ مَا فِي الْآيَةِ أَوْلَى بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ وَالْغَضَبَ مِمَّا لَا يُشَاهَدُ فَلَا يُشَارُ إِلَى ذَاتِهَا وَلَكِنْ يُشَارُ إِلَى مَضْمُونِ الْكَلَامِ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ أَيْ مَذْكُورٌ وَمَقُولٌ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمرَان: ٥٨] أَيْ ذَلِكَ الْقَصَصُ السَّابِقُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَة: ٦٨] وَسَيَأْتِي.
وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (١) «وَالَّذِي حَسَّنَ ذَلِكَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ لَيْسَتْ تَثْنِيَتُهَا وَجَمْعُهَا وَتَأْنِيثُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ الْمَوْصُولَاتُ وَلِذَلِكَ جَاءَ الَّذِي بِمَعْنَى الْجَمْعِ» اهـ قِيلَ أَرَادَ بِهِ أَنَّ جَمْعَ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَتَثْنِيَتَهَا لَمْ يَكُنْ بِزِيَادَةِ عَلَامَاتٍ بَلْ كَانَ بِأَلْفَاظٍ خَاصَّةٍ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ فَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِعْمَالُ بَعْضِهَا فِي مَعْنَى بَعْضٍ أَسْهَلَ إِذَا كَانَ عَلَى تَأْوِيلٍ، وَهُوَ قَلِيلُ الْجَدْوَى لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالْمَجَازِ سَوَاءٌ كَانَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظٍ فِي مَعْنَى آخَرَ أَوْ فِي اسْتِعْمَالِ صِيغَةٍ فِي مَعْنَى أُخْرَى فَلَا حُسْنَ يَخُصُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِيمَا يَظْهَرُ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ ذَا مَوْضُوعٌ لِجِنْسٍ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ. وَالَّذِي مَوْضُوعٌ لِجِنْسٍ مَا عُرِفَ بِصِلَةٍ فَهُوَ صَالِحٌ لِلْإِطْلَاقِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَإِنَّ مَا يَقَعُ مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَالْمَوْصُولَاتِ لِلْمُثَنَّى نَحْوَ ذَانِ وَلِلْجَمْعِ نَحْوَ أُولَئِكَ، إِنَّمَا هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ لَا أَنَّهُ تَثْنِيَةُ مُفْرَدٍ، وَجَمْعُ مُفْرَدٍ، فَذَا يُشَارُ بِهِ لِلْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَلَا عَكْسَ فَلِذَلِكَ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ الْمُفْرَدِ مِنْهَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ سَبَبِيَّةٌ أَيْ أَنَّ كُفْرَهُمْ وَمَا مَعَهُ كَانَ سَبَبًا لِعِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِغَضَبِ اللَّهِ وَفِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ
مَا وَقَعُوا فِيهِ.
(١) فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَة: ٦٨] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute