لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمِيرَاثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْخَبَرَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مُسْتَعْمَلَانِ مَجَازًا فِي لَازِمِ الْإِخْبَارِ، وَهُوَ الِاسْتِرْحَامُ لِحَالِهِ. لِأَنَّ الْمُخْبَرَ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- عَالِمٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرَانِ.
وَالْوَهْنُ: الضَّعْفُ. وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْعَظْمِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا شَمِلَهُ الْوَهْنُ فِي جَسَدِهِ لِأَنَّهُ
أَوْجَزُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِ الْوَهْنِ جَمِيعَ بَدَنِهِ لِأَنَّ الْعَظْمَ هُوَ قِوَامُ الْبَدَنِ وَهُوَ أَصْلَبُ شَيْءٍ فِيهِ فَلَا يَبْلَغُهُ الْوَهْنُ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَ مَا فَوْقَهُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْعَظْمُ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ دَالٌّ عَلَى عُمُومِ الْعِظَامِ مِنْهُ.
وَشُبِّهَ عُمُومُ الشَّيْبِ شَعْرَ رَأْسِهِ أَوْ غَلَبَتُهُ عَلَيْهِ بِاشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْفَحْمِ بِجَامِعِ انْتِشَارِ شَيْءٍ لَامِعٍ فِي جِسْمٍ أَسْوَدَ، تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا تَمْثِيلِيًّا قَابِلًا لِاعْتِبَارِ التَّفْرِيقِ فِي التَّشْبِيهِ، وَهُوَ أَبْدَعُ أَنْوَاعِ الْمُرَكَّبِ. فَشُبِّهَ الشَّعْرُ الْأَسْوَدُ بِفَحْمٍ وَالشَّعْرُ الْأَبْيَضُ بِنَارٍ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ وَرُمِزَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِفِعْلِ اشْتَعَلَ.
وَأُسْنِدَ الِاشْتِعَالُ إِلَى الرَّأْسِ، وَهُوَ مَكَانُ الشَّعْرِ الَّذِي عَمَّهَ الشَّيْبُ، لِأَنَّ الرَّأْسَ لَا يَعُمُّهُ الشَّيْبُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعُمَّ اللِّحْيَةَ غَالِبًا، فَعُمُومُ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ أَمَارَةُ التَّوَغُّلِ فِي كِبَرِ السِّنِّ.
وَإِسْنَادُ الِاشْتِعَالِ إِلَى الرَّأْسِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الِاشْتِعَالَ مِنْ صِفَاتِ النَّارِ الْمُشَبَّهِ بِهَا الشَّيْبُ فَكَانَ الظَّاهِرُ إِسْنَادَهُ إِلَى الشَّيْبِ، فَلَمَّا جِيءَ بِاسْمِ الشَّيْبِ تَمْيِيزًا لِنِسْبَةِ الِاشْتِعَالِ حَصَلَ بِذَلِكَ خُصُوصِيَّةُ الْمَجَازِ وغرابته، وخصوصية التَّفْصِيل بعد الْإِجْمَال، مَعَ إِفَادَةِ تَنْكِيرِ شَيْباً مِنَ التَّعْظِيمِ فَحَصَلَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَأَصْلُ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ: وَاشْتَعَلَ الشَّيْبُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ.
وَلِمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ مِنْ مَبْنِيِّ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ كَانَ لَهَا أَعْظَمُ وَقْعٍ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَوَضَّحَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فَانْظُرْهُمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute