» (١) أَنَّ اسْمَ الصَّابِئَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ أَصْلٍ عِبْرِيٍّ هُوَ (ص ب ع) أَيْ غَطَسَ عُرِفَتْ بِهِ طَائِفَةُ (الْمَنْدِيَا) وَهِيَ طَائِفَةٌ يَهُودِيَّةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فِي الْعِرَاقِ يَقُومُونَ بِالتَّعْمِيدِ كَالنَّصَارَى.
وَيُقَالُ الصَّابِئُونَ بِصِيغَة جمع صابىء وَالصَّابِئَةُ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمُقَدَّرٍ أَيِ الْأُمَّةُ الصَّابِئَةُ وَهُمُ الْمُتَدَيِّنُونَ بِدِينِ الصَّابِئَةِ وَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا الدِّينِ إِلَّا اسْمُ الصَّابِئَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ دِينُ الصَّابِئَةِ إِضَافَةً إِلَى وَصْفِ أَتْبَاعِهِ وَيُقَالُ دِينُ الصَّابِئَةِ. وَهَذَا الدِّينُ دِينٌ قَدِيمٌ ظَهَرَ فِي بِلَادِ الْكِلْدَانِ فِي الْعِرَاقِ وَانْتَشَرَ مُعْظَمُ أَتْبَاعِهِ فِيمَا بَيْنَ الْخَابُورِ وَدِجْلَةَ وَفِيمَا بَيْنَ الْخَابُورِ وَالْفُرَاتِ فَكَانُوا فِي الْبَطَائِحِ وَكَسْكَرَ فِي سَوَادِ وَاسِطَ وَفِي حَرَّانَ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ.
وَكَانَ أَهْلُ هَذَا الدِّينِ نَبَطًا فِي بِلَادِ الْعِرَاقِ فَلَمَّا ظَهَرَ الْفُرْسُ عَلَى إِقْلِيمِ الْعِرَاقِ أَزَالُوا مَمْلَكَةَ الصَّابِئِينَ وَمَنَعُوهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَلَمْ يَجْسُرُوا بَعْدُ عَلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَنَعَ الرُّومُ أَهْلَ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ مِنَ الصَّابِئِينَ فَلَمَّا تَنَصَّرَ قُسْطَنْطِينُ حَمَلَهُمْ بِالسَّيْفِ عَلَى التَّنَصُّرِ فَبَطَلَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَتَظَاهَرُوا بِالنَّصْرَانِيَّةِ فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى بِلَادِهِمُ اعْتُبِرُوا فِي جُمْلَةِ النَّصَارَى وَقَدْ كَانَتْ صَابِئَةُ بِلَادِ كَسْكَرَ وَالْبَطَائِحِ مُعْتَبَرِينَ صِنْفًا مِنَ النَّصَارَى ينتمون إِلَى النبيء يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ وَمَعَ ذَلِكَ لَهُمْ كُتُبٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا عَلَى شِيثِ بْنِ آدم ويسمونه (أغاثاديمون) ، وَالنَّصَارَى يُسَمُّونَهُمْ يُوحَنَّاسِيَةَ (نِسْبَةً إِلَى يُوحَنَّا وَهُوَ يَحْيَى) .
وَجَامِعُ أَصْلِ هَذَا الدِّينِ هُوَ عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَالْقَمَرِ وَبَعْضِ النُّجُومِ مِثْلَ نَجْمِ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ وَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِخَالِقِ الْعَالَمِ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ حَكِيمٌ مُقَدَّسٌ عَنْ سِمَاتِ الْحَوَادِثِ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْبَشَرَ عَاجِزُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى جَلَالِ الْخَالِقِ فَلَزِمَ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ مَخْلُوقَاتٍ مُقَرَّبِينَ لَدَيْهِ وَهِيَ الْأَرْوَاحُ الْمُجَرَّدَاتُ الطَّاهِرَةُ الْمُقَدَّسَةُ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ سَاكِنَةٌ فِي الْكَوَاكِبِ وَأَنَّهَا تَنْزِلُ إِلَى النُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَتَتَّصِلُ بِهَا بِمِقْدَارِ مَا تَقْتَرِبُ نُفُوسُ الْبَشَرِ مِنْ طَبِيعَةِ الرُّوحَانِيَّاتِ فَعَبَدُوا الْكَوَاكِب بِقصد التجاه إِلَى رُوحَانِيَّاتِهَا وَلِأَجْلِ نُزُولِ تِلْكَ الرُّوحَانِيَّاتِ عَلَى النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ يَتَعَيَّنُ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِتَطْهِيرِهَا مِنْ آثَارِ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ بِالتَّضَرُّعِ إِلَى الْأَرْوَاحِ وَبِتَطْهِيرِ الْجِسْمِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالطِّيبِ وَأَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَضَائِلَ النَّفْسِ الْأَرْبَعَ الْأَصْلِيَّةِ (وَهِيَ الْعِفَّةُ وَالْعَدَالَةُ وَالْحِكْمَةُ وَالشَّجَاعَةُ) وَالْأَخْذُ بِالْفَضَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ (الْمُتَشَعِّبَةِ عَنِ الْفَضَائِلِ الْأَرْبَعِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ) وَتَجَنُّبُ الرَّذَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ (وَهِيَ أَضْدَادُ الْفَضَائِلِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ) .
(١) فِي فصل حَرَّره المستشرق (كارارفو) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute