وَقُدِمَ ذِكْرُ قَتلِهِ النَّفْسَ عَلَى ذِكْرِ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْغَمِّ لِتَعْظِيمِ الْمِنَّةِ، حَيْثُ افْتُتِحَتِ الْقِصَّةُ بِذِكْرِ جِنَايَةٍ عَظِيمَةِ التَّبِعَةِ، وَهِيَ قَتْلُ النَّفْسِ لِيَكُونَ لِقَوْلِهِ فَنَجَّيْناكَ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمِنَّةِ، إِذْ أَنْجَاهُ مِنْ عُقُوبَةٍ لَا يَنْجُو مِنْ مِثْلِهَا مِثْلُهُ.
وَهَذِهِ النَّفْسُ هِيَ نَفْسُ الْقِبْطِيِّ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِي اخْتَصَمَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْمَدِينَةِ فَاسْتَغَاثَ الْإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى لِيَنْصُرَهُ فَوَكَزَ مُوسَى الْقِبْطِيَّ فَقَضَى عَلَيْهِ كَمَا قُصَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
وَالْغَمُّ: الْحُزْنُ. وَالْمَعْنِيُّ بِهِ مَا خَامَرَ مُوسَى مِنْ خَوْفِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَضْمَرَ الِاقْتِصَاصَ مِنْ مُوسَى لِلْقِبْطِيِّ إِذْ كَانَ الْقِبْطُ سَادَةَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، فَلَيْسَ اعْتِدَاءُ إِسْرَائِيلِيٍّ عَلَى قِبْطِيٍّ بِهَيِّنٍ بَيْنَهُمْ. وَيَظْهَرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي تَبَنَّى مُوسَى كَانَ قَدْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَالْفُتُونُ: مَصْدَرُ فَتَنَ، كَالْخُرُوجِ، وَالثُّبُورِ، وَالشُّكُورِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِتَأْكِيدِ عَامَلِهِ وَهُوَ فَتَنَّاكَ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ فُتُونًا قَوِيًّا عَظِيمًا.
وَالْفُتُونُ كَالْفِتْنَةِ: هُوَ اضْطِرَابُ حَالِ الْمَرْءِ فِي مُدَّةٍ مِنْ حَيَاتِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩١] . وَيَظْهَرُ أَنَّ الْفُتُونَ أَصْلُ مَصْدَرِ فَتَنَ بِمَعْنَى اخْتَبَرَ، فَيَكُونُ فِي الشَّرِّ وَفِي الْخَيْرِ. وَأَمَّا الْفِتْنَةُ فَلَعَلَّهَا خَاصَّةٌ بِاخْتِبَارِ الْمُضِرِّ. وَيَظْهَرُ أَنَّ التَّنْوِينَ فِي فُتُوناً لِلتَّقْلِيلِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً كَالِاسْتِدْرَاكِ عَلَى قَوْلِهِ فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، أَيْ نَجَّيْنَاكَ وَحَصَلَ لَكَ خَوْفٌ، كَقَوْلِهِ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ [الْقَصَص: ١٨] فَذَلِكَ الْفُتُونُ.
وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْفُتُونِ خَوْفُ مُوسَى مِنْ عِقَابِ فِرْعَوْنَ وَخُرُوجُهُ مِنَ الْبَلَدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute